jeudi 23 octobre 2014

صهيل التحدي..




 ..صهيل التحدي
      على غفلة منها اختطف الموت زوجها في أواخر السبعينيات، فوجدت نفسها وحيدة مع أربعة أطفال وسط فقر مدقع قاسي، لا معيل، ولا إرث يذكر، ولا بقية من أجر المعيل المتوفى، وعليها إطعام أطفالها الصغار.. عبء ثقيل ولا من رحيم، والواقع قاهر، الموت جوعا أو امتهان البغاء، وما كان على الأم الأمية الفقيرة إلا أن واجهت واقعها البئيس، وبادرت بعفويتها وتلقائية الروح الصافية إلى  طرق باب الممكن والمستحيل..
    فكرت، وقررت، ونفذت، سلاحها الإيمان وحنان أمومة مسكونة بآلام النفس المذلولة بواقع مرير لا يرحم، رغما عنها أخذت أكبر أطفالها، لا يتجاوز خمس سنوات، إلى المركز الخيري بالبيضاء حين كان يقوم برسالته الاجتماعية والوطنية، ملجئ لليتامى ومن هم في حاجة إلى المأوى والمساعدة.. فحاولت الأم المقهورة، بعناد ومشقة، أن تجد لابنها الصغير مكانا في الملجئ الخيري، وتحقق المراد، وعانى قلب الأم حرقة فراق صبيها الذي لا يزال في حاجة إلى رعايتها وحنانها، لكن لم يكن لها أفضل منه خيارا..  
    مرت السنوات، ترعرع الابن الصغير بعيدا عن دفء حضن أمه وحنان الإخوة والعائلة، كبر وتعلم وصار رجلا، وتخرج الطفل المنفي ربان الطائرة، ومن حينها، يجوب دون عقدة نقص فضاءات العالم مفتخرا بأمه العظيمة وانتمائه الوطني..  

رياضي  
الدار البيضاء، سبتمبر 2014

vendredi 26 septembre 2014

هدير زمن الرصاص..

 نص:
هدير زمن الرصاص..  

بدوي الطباع ونطق الكلام، شاب في مقتبل العمر، في السابع عشر، ترك أرضه ورحل إلى المدينة، استقر بها، واغترب فيها، لا يهم أية مدينة، المهم أنها بمغرب أواسط السبعينات.. اعتراه فرح عارم لرحيله عن البادية وحلوله بالمدينة، متوسط الطول، نحيف البنية، لكنه يتمتع بصحة جيدة، ومستعد لأية خدمة توفر له قوته اليومي البسيط، وتضمن الاستقرار في صخب المدينة بعيدا عن صمت البادية؛ وبالمدينة اكتنفته سعادة جارفة، واستولت عليه، وعززت عفويته الساذجة إلى أقصى الحدود..
في تيه  الاعجاب الشديد بالمدينة سرعان ما صادف عملا  متعبا لكن يؤمن له المبيت والقوت البسيط، وأكثر من ذلك يمنحه فرصة نسيان قريته إلى حين.. رحب به صاحب حمام تقليدي، وعهد له مسؤولية موقد النار الموجود في أسفل الحمام،  عبارة عن حفرة كبيرة، شبيهة بمغارات العصر الحجري، تتضمن فرن النار، وركام خشب، و مصباح على الحائط، اسود ببراز الذباب، ينير على نفسه.. شرح له صاحب الحمام مهمته التي تنحصر في اضرام النار في الموقد في الصباح الباكر قبل الفجر، والسهر على إبقائها مستعيرة طوال النهار إلى منتصف الليل، لتسخين الماء وتزويد الحمام بالحرارة الضرورية للمستحمين، وحدد له راتبا أسبوعيا، ووعده بالخير والحماية، كما سمح له بالإقامة في مكان عمله دون مقابل.. ولم يكد أن ينهي السيد الكلام حتى علت ابتسامة الانبهار وجه الشاب، ورغم بدائية المكان ورائحة النار والرماد والخشب الممزوجة برائحة العرق المقرفة،  كان له سحر وجاذبية في نفسية الخادم الجديد، فظل للحظة مأخوذا بالهدية السماوية كأنه حقق حلما يستحيل تحقيقه، واعتبر نفسه أسعد مخلوق على الأرض، وسرعان ما اختار، في قرارة نفسه، ركنا خاصا كغرفة للاستراحة والنوم، فلا يهم سعة ونظافة المكان أكثر من راحته النفسية في الفرن بعيدا عن القرية، وعهد نفسه على التفاني والإخلاص في العمل، في اشعال النار في الوقت المحدد لها، وتأجيجها طوال النهار، وضمان سخونة الماء وحرارة الحمام كما أمره سيد الفضل عليه، فلم يعد له ما يشغله سوى نار الفرن، لقد حانت له الفرصة ليعيش حياته كما يريد، وغمرته  سعادة هوجاء ، فاندفعت أحلامه تسابق الزمن ووهج نار الفرن، تنسج خيوط حكايات وحكايات العودة في يوم ما إلى أرض الولادة، إلى القرية بشخصية مغايرة، وسيارة فاخرة، وزوجة فاتنة..
لصاحب الحمام ابن في عمر الشاب البدوي،  شاب طموح له قناعات صامتة، يأتيه ساعي البريد من حين لآخر، على عنوان الفرن، برسائل ومجلات أجنبية.. بعد أسبوعين من حضور خادم الفرن الجديد اختفى الابن فجأة، فلم تسمح الظروف للشاب البدوي أن يتعرف عليه كثيرا، واختفاؤه لم يثر ضجة ولا عويل العائلة، ربما رحل برضا والديه كما ترك البدوي عائلته وأصدقاءه وقريته في صمت تام، ولم يظهر له أثر بعد ذلك، لكن الرسائل والمجلات ظلت تأتي في مواعدها إلى عنوان الفرن، كعادته كل صباح  يمر ساعي البريد بدراجته الهوائية أمام الحمام، وإن كانت لديه رسائل أو مجلات لابن صاحب الحمام  يقذف بها إلى داخل عتبة موقد النار دون أن يتوقف، والأمانة تحتم على الشاب البدوي الاحتفاظ بها حتى يعود صاحبها، لكنه لم يعد، فاستأذن والده في أمرها،  وأمره بالتخلص منها.. فرمى بكل الرسائل في موقد النار، واحتفظ بالمجلات، أتارت اهتمامه صور الفتيات ورجال لا علم له بهم، لينين، ستالين، برجنيف، كاسترو ، تشي فارا.. وصورة المنجل الذي يذكره بالأرض والحرث والبادية.. مجلات من قلب قلعة لينين الحمراء، وبقوة الاعجاب والحنين نزع الصور التي وجدت حنينا في نفسيته وألصقها على حائط ركن جنته السعيدة، ليتأملها، من حين لآخر، طوال النهار وهو يؤجج بحيوية عالية نار الفرن، وفي كل ليلة، بعد منتصف الليل وإخماد نار الفرن، يتمدد في مكان جنته السعيدة ويسرح في الصور ينتظر النوم، وإلى أن يأتيه تأخذه أحلام اليقظة في مغامرات خيالية مثيرة مع إحدى فتيات الصور المعلقة، يسافر عبر الزمن يبني أحلامه في قريته البئيسة، شخص  دو مال وجاه وشهرة، وبرفقته إحدى فتيات الصور المختارة، وهو حافظ القرآن قرر أن يتعلم قراءة اللغة المكتوبة على تلك الصور، يريد أن يتعرف على تلك النسوة، ويتواصل معهن، ربما يثير إعجاب احداهن أو أكثر ..
وقبل أسبوع من يوم عيد وطني أتاه مقدم الحومة لينزع منه  نصيب مساهمته الوطنية في احتفالات العيد، ينزل درج  الفرن، وعند أسفله شدت انتباهه الصور المعلقة على  حائط المرقد السعيد، المنجل، لينين، ستالين، برجنيف، ماو، تشي فارا، وكاسترو، ولمح الشاب البدوي يرمي مجلة داخل الفرن بعد أن نزع منها بعض الصور، وأسرع الخطوات يرحب بالمقدم بحرارة نار الموقد، وراح تخمين المقدم بعيدا، وأطال التأمل في الصور في صمت خبيث، وبعدها التفت إلى الشاب، وتطلع إليه من أخمص قدميه إلى رأسه وعلى شفتيه نصف ابتسامة ماكرة.. ابتهج قلب البدوي، وتدفقت في دمه أحاسيس الاعتزاز النفسي، وتباهى بالصور واستئناسها له في وحدته الساخنة، لم ينطق المقدم بكلمة، وعاد صاعدا الدرج، وأسرع الخطوات أمام ابتسامة عريضة بليدة من الشاب الذي عاد مسرعا ليواصل تسعير نار الموقد..
عند منتصف الليل داهم جنة خادم الفرن أربع زبانية أقوياء البنية،  يتقدمهم المقدم القصير القامة، استفاق الخادم  من نومه مذعورا، تحسس زر المصباح على الحائط بجانبه، وضغط عليه، بصعوبة لاح له وجه المقدم بنظرات ارتياب قاتلة صلبت ابتسامته المعهودة، وما كاد يفتح عينيه حتى سقطت عليه لكمة قوية، نزلت كقذيفة الهاون على وجهه، أفقدته توازنه، وظهرت له نجوم تتلألأ في فضاء الموقد المظلم، وتلتها ركلات أشد لهبا من نار الفرن، انخطف لون وجهه، واسود المكان أكثر في عينيه، ودخل في غيبوبة، وانذمج مع سواد المكان، فطوقوه بينهم، ولم يعد يظهر للعيان، واقتادوه فاقد الوعي، واختفى في الظلمة الدامسة.. ظلت أغراضه في الفرن، واعتقد صاحب الحمام أنه تخلى عن العمل من تلقاء نفسه، وطال عليه أمد الغياب، امتد لسنوات حتى نسيه صاحب الحمام وزبائنه..
مرت سنوات طويلة غامضة ليعود إلى الوجود شبحا آخر، يسير ببطء على حافة الموت، أخذ منه الغياب ما أخذ، داهمته الشيخوخة قبل أوانها، شاب شعره واختفت ابتسامته، وتاهت عفويته، وفقد لسانه، يمشي بصعوبة، منحني الظهر، عيناه جاحظتان لكنه لا يبصر شيئا.. فقد حاضره، ولم يصل مستقبله، ولا يتذكر شيئا من ماضيه، حتى اسمه ضاع منه.. ولا يزال الحمام التقليدي يعمل على عهده الأول..
م. رياضي 
الدار البيضاء، سبتمبر 2014 

jeudi 18 septembre 2014

شرف الكلمة..

شرف الكلمة..

أتاه الأمر من السماء: اقرأ !.. 
وتعرف على أبجديات اللغة ونطق الحروف وتركيب الكلمات، وتعلم القراءة.. أحب الكلمة واستوعبها ، وصدقها، وآمن بها، أحبها ببراءة الطفل، وعندما أخذه العمر أدرك أن لها معاني ودلالات دافئة، حارقة، ثورية، قبيحة ، نبيلة، إيحائية، مباشرة، سلبية، وفية ، خائنة.. وتشبث بالأصل وأبعد بقية التفاصيل، وترسخت المعاني في ذهنه، وتقوى المبدأ في دمه، واتسعت حدود خياله.. لكن في الزمن الساقط الرديء المخزي لم تعد الكلمة وفية لصدقها، وضاع المعنى، وداهمه الخداع، وطعنته الخيانة، وتاه عن نفسه، وعجز على إيجادها، فأعلن الصمت حدادا، وسار طويلا دون توقف، وقرر الانتحار.. لماذا يا ربي؟..
رياضي

الدار البيضاء، سبتمبر 2014

رماد الصيف ..

رماد الصيف ..
في الصيف الأخير انتابتني حالة نفور حاد بسبب طعنة غادرة، وكنت في حاجة إلى فضاء يتجاوز حدود الدار البيضاء والمغرب والعالم العربي، واحتارت أهوائي إلى أين؟ لكن الكلمة في الأخير عادت للإرادة المحدودة التي أخذتني إلى شواطئ الساحل المغربي.. أهوى البحر وأخافه، يسحرني سراب زرقته، ويحيرني هدوئه الخادع، وتدهشني أمواجه الغاضبة، لكن لا أستطيع أن أقاوم جاذبيته، له سحر خاص، يستهويني للغوص إلى الأعماق، أعماق كل شيء.. كنت في حاجة إليه، وهرعت إلى المحيط الأطلسي، وسمحت ل"طوق الياسمين" للأديب العربي "واسيني الأعرج" أن ترافقني في مغامرتي، لم أحدد شاطئا معينا في بدء الرحلة، فقذفتني الرياح إلى أمواج سيدي بوزيد وسيدي عابد وسيدي موسى وسادات آخرين، كأني دون وعي ألتمس بركة سادات وأولياء شواطئ البحر ليتوسطوا لي لدى إله البحر "بوسيدون" لكي يأخذنا إلى الله لعلي أجد أجوبة لأسئلة معلقة وغامضة عن الوفاء والصداقة والحب والوطنية.. لكن هو الآخر خذلني، لم يأتي.. وأنستني "طوق الياسمين" معاناتي في حزنها الجميل، وعدت أدراجي إلى صخب الحياة الملعونة..
رياضي

الدار البيضاء، سبتمبر 2014

قدر مبهم..



قدر مبهم..
تكلمت كثيرا، وأحبته كثيرا، وعانت كثيرا، وأحرقت حس الكلام في ملحمة حروب مفتعلة، أجج لهيبها تحايل من خان العهد، وإعجاب من يلهثون وراء لمسات حميمية عابرة، وأيضا دعوات التملق والتراضي لتأكيد الحضور بالقوة، وبعدها اختصرت المسافات كأنها حققت انتصار رغبات دفينة، وانتهى الأمر.. 
وعادت، لكنها لم تعد كما كانت، شيء فيها انسحب سرعة، أو ربما توهم أنه فيها عندما قرأها في لحظة ضعف، حين اهتز فيه شيء عميق استحضر ذاكرة أحلام مضطهدة في زمن الرصاص والانكسارات القاهرة، فوقع في هواها، وبات يتنفس أنفاسها، ونسي نفسه، إنه عشق اللإنسان السليم الذي يبحث عن إحساس مفقود.. 
وعند ضبطها في واقعة مزعجة، فقدت كل التوازن، ورفضت مواجته، وتنكرت لكل شيء، وفرت هاربة في العناد الفارغ، واختلقت الأوهام، وانزوت إلى الاختفاء، وعانقت من يؤجج نار الفتنة، ونسجت ما يثير الاستفزاز القاتل، وبرعت في تأجيج لهيب الغيرة المدمرة وهي ترقص رقصة الانتحار على أنغام شهرة نار مضطرمة.. 
قدر مبهم لم يختر طريقه لكنه أتاه إلى عالمه الحصين، وداهمه بهدوء النفس المسكونة بالسوء، المكر والخداع، النفاق.. لماذا؟ لا يدري، ويرفض أن يخسر نفسه، ولا يريد أن يخسرها هي أيضا ، لذلك ترك لها نفسه وما تقاسماه، وانسحب..
رياضي

الدار البيضاء، سبتمبر 2014

لغم الصمت..

لغم الصمت.. 
لا يدري ما حل به، فجأة تغيرت ملامحه، أراد الاطمئنان عليها بعد زيارتها طبيب الأسنان، وكانت مكالمتها رصاصة محرقة انفجرت في دواخله، ضحاكات مفتعلة وجدت لها مبررات مقبولة لإشباع ضعف جارف، وأضرمت نار غضب نهشت فكره وحرقت دمه، وأصابتهبانهيار شديد، ولفه حزن صامت، وذهنه لم يعد ملكه، وصار خارج الزمن واللامكان، مهموم يصغي إلى نفسه، وعاجز على ايجادها، فنفسه معها، وهي تتباهى بأحاسيس حالمة تحملها إلى حفل عائلي، وتعمدت لغم الصمت..
طال الصمت، وثقل عليه، وتأججت في دمه حرائق الفقدان، ارتفع ضغطه رغم أنه على يقين من احساسها، ولا يكفيه ذلك، فانفجر على نفسه، وسبحت به لعنة تيه الوحدة والحزن وسخط خيبات الحياة.. وفي مساء اليوم الموالي راسلها في الغياب، وصادف تواجدها في أمسية شاعرية، ولأنها تجد نفسها في الحركات الاستعراضية، لما تمنحها من بطولات وهمية، كلمته بنخوة الكاتبة والشاعرة والإعلامية والفنانة وربما الفيلسوفة، لم ينبس بكلمة، سحب البساط من تحتها ورحل، وترك الحضور القليل يصفق لها ..
رياضي..

الدار البيضاء، سبتمبر  2014

ويبقى الأمل..

 
..
ويبقى الأمل 
وقف مقطب الحاجبين يتأمل البحر، لحظة أسرع الخطوات وقفز إلى عمق أمواج الذكريات ، واشتدت به عواصف مؤلمة، فوجد نفسه في عمق بحر جفت مياهه، وجثم على ركبتيه، وراح يغرس أظافره في الأرض لعله يجد ما ترتوي به أيامه الباقية في زمن الجفاف..
م. رياضي
الدار البيضاء، سبتمبر 2014

mercredi 17 septembre 2014

عاهرة شريفة..

أعتذر من القارئ على بعض الكلمات القبيحة في المجتمع العربي.. رياضي

نص:

عاهرة شريفة،

صباح ممطر من أيام الثمانينات..
يجلس رياض لوحده إلى طاولة في مقهى ضيقة المساحة، ينتابه احساس أنه غريب عن المكان، فغالبية المتواجدين بالمقهى يعرفون بعضهم، ربما لأنهم زبائن منتظمين.. طاولات محدودة العدد، وكل الكراسي مشغولة إلا واحدا بجانب رياض يضع عليه محفظته.. فجأة دخلت المقهى سيدة في الثلاثينيات، سلبت انتباهه واشتهاء نظرات بعض الحاضرين، كأنهم يعرفونها، لها جاذبية مغرية، جميلة الوجه، ساحرة القد، متوسطة الطول، بيضاءة البشرة، متناغمة ألوان الملبس، ترتدي جلبابا عصريا باهت الخضرة، وحول عنقها كشكولا غامق الحمرة، وحذاء لامع السواد، وبيدها محفظة صغيرة الحجم بلون الحذاء، ورغم تواضع ملبسها يصنفها اللامح لها من سيدات الطبقة الراقية، خطأ وقعت في مكان دون مستواها الاجتماعي.. 
ظلت واقفة عند مدخل المقهى، مبللة بمياه المطر مما زادها اغراء وأنوثة طاغية، رماها رياض بنظرات اعجاب سريعة، وأعاد عينيه إلى الأوراق التي بين يديه في انتظار أحد معارفه، على موعد معه لأمر يهمه، في تلك اللحظة يلج الصديق المقهى، قصير القامة، أسود البشرة، بسيط الهندام، وغير متناغم الألوان، هو الآخر مخضل بالماء، لكن لا يثير الانتباه كالحسناء المبللة، دخل راسما ابتسامة بلهاء على شفتيه، بحرارة يسلم على السيدة السالبة العيون كأنه على معرفة وطيدة بها، مما أثار استغراب رياض وتساءل في صمت:" من أين له معرفة هذه السيدة المحترمة؟ "..
دون مستواها الاجتماعي، والدراسي ضعيف جدا، ومهنته بسيطة جدا جدا، علت وجهه ابتسامة سعيدة وهو يحييها بوقار، كأنه خادم أمام أميرة من أميرات القرون الوسطى، يطمئن عليها، ويسألها لماذا لم تأخذ لها مكانا ريثما تتوقف الأمطار، وأومأت برأسها ونظراتها تلف المكان لتؤكد له بعدم وجود كرسي شاغر، فأشار لها بالكرسي القريب من رياض، وأقنعته أنها تتفادى أن تفرض نفسها على شخص لا يعرفها، لأنها لا تضمن ردة فعله عندما يعلم من تكون، ودون تردد دعاها للجلوس على الكرسي المقابل لرياض الذي أزاح محفظته عنه.. أنثى في آية اللباقة والأدب، بحياء اراحت نفسها على كرسي، وتفادت اطالة النظر إلى عيني رياض، لها عينان عسليتان ساحرتان، بدون تقديم أزال الصديق البروتوكول، عرفها برياض، وقدمت نفسها، وارتاحت إليه، وبعد لحظات انفجرت عفويتها، ونطق اللسان.. 

سعاد، بائعة هوى، يعني عاهرة ، باغية، مومس، تمتهن البغاء منذ ثلاث سنوات، يبدأ عملها من العاشرة صباحا إلى أي وقت ينتهي فيه رزق البغاء.. أم لطفلة في السادسة، وزوجها يقضي عقوبة سجنية طويلة المدى، قبض متلبسا في قضية مخدرات، وبكمية كبيرة، ولم يترك لها ما تعيل به نفسها وابنتهما، فدفعتها الحاجة إلى البحث عن عمل، لكنها لا تملك لا شهادة مدرسية ولا تجربة مهنية، فلم تقبلها إلا بعض البيوت كخادمة، تجارب استغلالية عانت فيها ويلات قاسية بين غيرة الزوجات وتحرش الأزواج وكبث الأبناء، وخوفا من أن تلحق زوجها في تهمة بريئة منها، في حالات رفض تهديد الاخضاع، رغما عنها خرجت إلى الشارع، وامتهنت علانية البغاء لتعيل نفسها وابنتها، وأيضا أن توفر مصروف قفة زياراتها الأسبوعية لزوجها، بما فيها علب سجائره.. 
بعد انهاء سرد قصتها الأليمة، دون الشعور بالإحراج والذنب والندم، طرح عليها رياض سؤالا بليدا حول علم زوجها بمصدر مصروف البيت والقفة والسجائر الأسبوعية.. تبسمت باستهزاء، وتمتمت بيأس :"دون أن يسأل.." ، نعم لماذا يطرح السؤال؟ يعلم أنه لم يترك لهما ولا سنتيما.. 
بعد لحظات توقفت أمام المقهى دراجة نارية متهالكة يقودها رجل متسخ، غير مقبول الخلقة، نزلت المرأة التي خلفه، وانصرف قبيح الوجه لسبيل حاله، وأسرعت السيدة إلى الواجهة الزجاجية للمقهى لتتقي قطرات الأمطار. ارتعدت فرائس سعاد عند رؤيتها، وقطبت حاجبيها، فاستفزها رياض بسؤال هازئ حول سبب نفورها عند رؤية السيدة المنافسة، فكشفت له سعاد أن السيدة حديثة العهد بالبيضاء، وواصلت كلامها العنيف:"وأن ذاك "القواد" الذي أوصلها يكون زوجها، وعلى رأس كل ساعة يأتي إليها ليسحب منها ما جنته على حساب كرامتها، لذلك أمقتها، وأنفر منها، وأحتقر ذاك الخنزير الشبيه بالزوج، بل الخنزير أشرف من روحه.."، وصمتت، وغمرت ملامحها سحنة حزن مكفهرة، عندها كانت الأمطار قد توقفت..
وعلى حين غرة، عادت ملامحها إلى طبيعة العمل، واستسمحت وانسحبت مسرعة الخطوات، وتابعها رياض بنظرات فاحصة عبر زجاج واجهة المقهى، فرآها تتجاوز شخصا في الأربعينيات، حالته البئيسة تجيز فيه الصدقة، وكلمته دون أن تلتفت إليه، بعد تجاوزه مباشرة تابع الزبون خطوات سعاد في اتجاه الفندق الموجود في آخر الطريق.. رياضي

jeudi 3 juillet 2014

"صمت الزنازين" عنوان مؤقت Stille Zellen

 

 Stille Zellen  "صمت الزنازين" عنوان مؤقت
                                 
 
 حوار مع الصحافي والمخرج السينمائي المغربي المقيم في ألمانيا محمد نبيل

بعد الفيلم التسجيلي "أحلام نساء" و"جواهر الحزن"، أنهى مؤخرا الصحافي والمخرج المغربي المقيم في المانيا محمد نبيل تصوير مشاهد فيلمه الجديد عن السجن والمرأة في المغرب،  تجربة السجن بالمغرب بصيغة المؤنث، ومباشرة بعد انتهائه من عملية التصوير، كان لنا معه الحوار التالي:
رياضي: بعد عرض فيلمك الاخير "جواهر الحزن" بالبيضاء، صرحت لي بأنك تشتغل على مشروع سينمائي نسائي جديد حول السجن والمرأة في المغرب. وبعد وقفة استراحة وتأمل ورحلات ماراطونية بين برلين والبيضاء والرباط، يتحقق التحدي، وأنهيت البارحة تصوير فيلمك الجديد تحت عنوان مؤقت " صمت الزنازين". 
يلاحظ المتتبع لمسيرتك الانتاجية أنك تركز اهتمامك على المرأة، والمثير أنك تتناول الأنثى في مواضيع صعبة ذات حساسية اجتماعية ودينية ليس فقط في المغرب وإنما في العالم العربي، لماذا هذا الاهتمام بالأنثى وفي تجارب مؤلمة وحزينة؟  
محمد نبيل: كل مخرج سينمائي له دواعي ذاتية وموضوعية في اختيار مواضيع أفلامه. أنا اخترت المرأة لأنها أولا، هي سبب وشرط وجودنا، وهذا مبرر للاهتمام بها أكثر. ثانيا، لا ننسى أن المرأة تمثل "التابو" أو المحرم في مجتمعاتنا العربية. وثالثا، لي حكايات ومغامرات كثيرة مع المرأة، أختصرها في طفولتي التي كنت فيها منصتا لأحاديث وأسرار نسائية مثيرة في كل مرة أخرج للنزهة مع عمتي وجدتي. كما أن علاقاتي مع النساء من مختلف الأصول والثقافات خلفت في ذاكرتي تراكمات بألوان مختلفة، وولدت في نفسي تساؤلات عن الحقيقة والهامش وعمق المشاكل المجتمعية. كلها أسباب دفعتني الى هذا التوجه السينمائي المليء بلغة الجمال والمتعة.
إن الاشتغال على موضوع أو سؤال نسائي هو محاولة للاحتماء ضد الموت. المرأة قادرة على أن تحسسنا بالاطمئنان. أهتم بالمرأة لأن الاشتغال عليها كسؤال ومعها هو مغامرة فيها ثراء إبداعي غزير بالمعنى الجمالي والفني. لا أخفيك، أنا مهووس بكل البصمات الجمالية بصيغة المؤنث.

رياضي: عرف فيلمك التسجيلي "جواهر الحزن" اهتماما في المهرجانات الغربية، كما أثار بعد عرضه في فضائية البي بي سي العربية  الكثير من الجدل، في حين لم يهتم به التلفزيون المغربي، ما سر هذه اللامبالاة من قبل القنوات المغربية لأفلامك التسجيلية؟  
محمد نبيل:  سؤال مهم للغاية. من وجهة نظري ،السينما انتاج وتوزيع وعرض، وأفلامي التي لم تصل الى الجمهور المغربي سببها بعض العقليات التي لم تصل بعد إلى فهم دور وأبعاد ونوعية الإنتاج السينمائي وخاصة التسجيلي منه. السينما التسجيلية والعمل الصحفي هو تخصص قائم الذات، وله ضوابط وقواعد وأخلاقيات. لابد من تغيير الوضع وفق منطق الكفاءة أولا وأخيرا. المغرب وصورته داخليا وخارجيا ومستقبل البلاد في حاجة الى كفاءاته، أما زمن الترقيع فقد انتهى.

رياضي: استضافتك قنوات المانية وفضائية دبي العربية في برنامجها المعروف "حلو الكلام" الذي أثار قضايا عدة من بينها سيرتك وفيلمك "جواهر الحزن". كيف ترى هذا الحضور في وقت تغيب فيه أنت عن الشاشات المغربية ؟ 
محمد نبيل: نعم، لو وجهت لي الدعوة كما توجهها القنوات الألمانية والعربية سأقوم بالواجب، وسأعبر كعادتي عن آرائي وأفكاري بكل حرية وبلغة عربية فصيحة. السينما فن وجمال. ابداع بمعايير وقواعد وأصول. دراستي للفلسفة سمحت لي بسبر أغوار هذه القارة الصعبة وفهم دلالات الفن وماهيات الجمال وأبعاده .
العمل الصحفي بدوره هو تخصص علمي يدرس في الجامعات الدولية. سمحت لي ظروف الهجرة الى الديار الكندية بالانفتاح والتعلم في فضاءات هذا الوطن العلمية. التواصل بين التلفزيون والمبدعين يتم على أساس فهم طبيعة إنتاج المبدع ونوعيته وعطاءه وتقييمه من وجهة نظر تلفزيونية خدمة للمشاهد والمتلقي. في لقاءاتي مع التلفزيون أو في المهرجانات أتفاعل مع الجمهور وأتعلم من انتقاداته وانطباعاته عن أعمالي. كل نقد رصين هو مقدمة لفيلم سينمائي جديد .

رياضي: بعد "أحلام نساء" عن تجارب ثلاث ألمانيات اعتنقن الإسلام، ومحنة أمهات مغربيات عازبات في "جواهر الحزن"، يأتي الفيلم الوثائقي "صمت الزنازين" عن تجربة السجن بالمغرب لكن  بصيغة المؤنث. لنتوقف عند جديدك هذا والذي أنهيت للتو تصوير آخر مشاهده بمدينة فاس، بعد تصوير المشاهد الأولية بسجن عكاشة في البيضاء.
قلت في إحدى لقاءاتك بأن الواقع المر صعب نقله إلى الشاشة، ونحن نعلم بأن الفيلم التسجيلي فضاء فني يجمع بين الخيال والواقع، فماذا نقلت للمشاهد المرتقب؟ فقط صور آهات وأنين المرأة؟ أم هناك اجتهاد في خلق المعاني وصراخ الصورة لكشف مرارة الواقع دون التصادم مع الرقابة؟ هلا شاركتنا حقيقة هذا الواقع المؤلم الذي يستعصي نقله إلى الشاشة الصغيرة؟
محمد نبيل: الصورة السينمائية التسجيلية تجمع بين الواقعي والمتخيل لكن بلغة فنية وجمالية. شريط صمت الزنازين (عنوان مؤقت للفيلم)، سيحكي عن المرأة السجينة وفق نظرة تتوخى التركيز. السجن في حد ذاته ألم وحزن وحبس للحرية. لذلك فنقل الواقع السجني هو رهان صعب، لأن الألم و مرارة العزلة وشروط السجن وغيرها تتجاوز أحيانا منطق اللغة السينمائية. في هذا العمل أوظف جماليات الصورة لتبليغ المعاني على سبيل المثال لا الحصر: توظيف ألاستعارات. كما أن مهمة المخرج والمنتج هي طرح السؤال بصيغة سينمائية. الفيلم يقوم بذلك لتقريب الصورة للمشاهد عن السجن المغربي بصيغة المؤنث. السجن في حد ذاته عقاب عسير للمرأة، ذلك الكائن المرهف، ولو كان ذلك في أفضل سجون النرويج .

رياضي: إن تصوير فيلم سينمائي يحتاج لعدة استعدادات وإجراءات إدارية بيروقراطية، هذا بالنسبة لمشاريع إنتاج أعمال مستهلكة أو روائية، وما بالك بالنسبة لموضوع المرأة والسجن وما يثيره من صور جد أليمة في الذاكرة المغربية، ما هي العوائق والصعوبات والمشاكل التي واجهتها والطاقم في تصوير هذا العمل الجريء بالبيضاء وبفاس؟
محمد نبيل: فعلا، أي عمل سينمائي حول هذا الموضوع الإشكالي الذي يثير الكثير من الردود والتقارير يعد مهمة صعبة . لكن ظروف التصوير وشروطها والتعامل مع إدارة السجون كان إلى حد ما ايجابيا بالرغم من المدة التي استغرق فيها الإعداد للفيلم، واستصدار الترخيص بالتصوير في سجن عكاشة، والتي قاربت السنتين. هناك تخوف وحذر ورغبة في ممارسة الرقابة وهو أمر غالبا ما كنت أنا وفريق التصوير الالماني لا نفهمه جيدا. وهناك عقلية جديدة في ادارة السجون تريد التغيير وتفهم ماهية الفن وتحظى بالتقدير والاحترام. فنحن نعيش في الألفية الثالثة من التاريخ ألإنساني، والسينما فن وإبداع تؤدي وظيفتها في تغيير العقليات والأذواق وترتقي بالناس الى مراتب التحضر. بممارسة النقد الجريء تتقدم الأمم العريقة وليس بتكريس الواقع.

رياضي: ما ملامح مشاريعك المستقبلية ؟
محمد نبيل: أشتغل على مشاريع سينمائية تهم المرأة المغربية المهاجرة في ألمانيا، والثقافة المغربية اليهودية كما تروي عنها النساء ،كما أن هناك محاولات لبناء مشروع سينمائي روائي في المغرب يكون نسائيا كذلك.
أعتقد بأن المشاريع التي أشتغل عليها تحمل في نظري البسيط والمتواضع من الهم الإنساني ما يكفي لبناء الذات والغير. الفن السابع قادر على بناء المجتمعات والارتقاء بالإنسان.
أتمنى أن تفتح الأبواب والعقول والقلوب المؤمنة بدور المرأة في التنمية وفي بناء مستقبل المغرب. كما تعلم، أعيش في بلد تقوده امرأة وأعني بذلك المستشارة الألمانية انغيلا ميركل.


رياضي: كلمة أخيرة..
محمد نبيل: التقدم والرقي مرهون بالرفع من وضع المرأة، وبتنمية العقل والذوق والتربية على الجمال. الفن السابع قادر على تحقيق هذا الحلم الإنساني.

رياضي: تحياتي.

                                                                      حاوره م. رياضي
                                                                                إعلامي
                                                             الدار البيضاء، يونيو 2014



vendredi 20 juin 2014

رائحة خيانة.. Smell of treason !



اهداء:"إلى كازابلانكا، الدار البيضاء الجميلة القبيحة، مدينة الصخب والمتناقضات.. إلى كل بيضاوي يغير على مدينته غيرته على وطنه.."
نص:


رائحة خيانة
       .....
       منذ مدة ما نال إجازة عمل، وما برح مدينته البرتغالية الاسم"كازابلانكا"، مدينة الضجيج والألم والنفاق، بعناد رفض الخضوع  لسخرية القدر السادي، فجرفه القهر الرهيب إلى عمق الضجر والاكتئاب الحاد،  فبات من الضروري أن يدوس روحه، ويندفع جسده يعدو بعيدا عن أرض الصخب والتناقضات، فأخذ إجازة يومين مع نهاية الأسبوع، لتصبح أربعة أيام، ليمنح نفسه قسطا من الراحة والتأمل والقراءة..
      استيقظ مع تباشير الصبح، وحرص كعادته أن لا يثير أي ازعاج، بهدوء طفق يغير ملابسه، ويتنقل بخطوات سريعة حافي القدمين يعد نفسه لمغادرة البيت، يجمع أقل ما يمكن من حاجياته الضرورية في هروبه..  مضطرب المزاج، مخنوق الخاطر، همه متى يطلق عنان الكيلومترات تأخذه بعيدا عن أرض النفاق دون أن يحدد الوجهة، بل لا يريد حتى نفسه أن تعرف أين سينفي ذاته لأربعة أيام..
     في السيارة اقتحمته رغبة جولة سريعة عبر بعض شوارع البيضاء، فقد تعود القيام بها من حين لآخر في أوقات متأخرة من الليل، أو في الصباح الباكر، ويوميا أيام العطل الدينية، حينها تتنفس كازابلانكا هدوء عابرا يتسابق مع الزمن قبل عودة البطون الجائعة مكشرة عن أنيابها لتنهش هدوء البيضاء المؤقت..
     يقود سيارته بسرعة بطيئة بشارع محمد الخامس، يتأمل هندسة المباني وفن ديكور خيال زمن الاستعباد، في صمت تنتصب وسط دماء شهداء التمرد والحرية ، ويعرج على شارع الحسن الثاني ينظر يمنة ويسرة، مباني بطابع عصري،  عمارات عالية،  واجهات محلات تجارية أنيقة تحاكي حياة الطغاة المبعدين، ثم يدخل شارع محمد السادس، شارع بروح مغربية أصيلة في قلب البيضاء المهمل، عندها اخترقت مخيلة رياض صور من أحياء القهر انبثقت من ظلمة خيانة الوطن، ومن المرآة اليمنى للسيارة تراءت له خيانات أخرى زرعتها وعود انتخابية كاذبة .. أحزنه ذلك كثيرا، فهو يحمل دائما همه في قلبه، ويتيه صامتا، ساكنا، حزينا، متوترا يبحث عن الوطن في مدينته الخانقة، وكلما ضاقت به نفسه يشتد عليه الخناق، وعناده ينفر الرحيل، فيأسره الصمت، شارد الذهن يعاين الفراغ المهلك، في إحدى مقاهي كازابلانكا.. والآن في سيارته يشتد غضبه أكثر، ويضغط على دواسة البنزين، ليهرب من عنف خياله، واستجابت السيارة للسرعة المطلوبة..

     ساعات من القيادة في صمت إلا من أزيز محرك السيارة، ومن حين لآخر، رجات عنيفة بسبب قوة رياح مختلف وسائل نقل الاتجاه المعاكس، لم يتوقف تفكير رياض عن السرحان، سافر إلى الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، لا يدري كيف مرت الساعات، ولا أين وصلت به الكيلومترات التي قطعتها السيارة.. 
     أتعبه الجلوس وإرهاق السياقة، فجأة خفف السرعة ، وأوقف السيارة على جانب الطريق، وسط الطبيعة، تعلقت عيناه في الفضاء المطلق اللا محدود، عينان يغمرهما الحزن عما فات من حياته، وترفضان الآتي المجهول أن يكون تحت رحمة قدر ملعون، وفي حين قلق فضيع، انتابه إحساس رمادي قاتم،  فترجل من سيارته، استنشق عميقا صفاء الطبيعة، وحبس أنفاسه لثوان، وباستياء المراهن على حصان خاسر أطلق سراحها بنفخة ميؤوسة من بين شفتين محبطتين، كأنه تخلص من عبء بغيض، وأطال التأمل في الأفق البعيد، فسكن  لسكون المكان، إلا من تغاريد الطيور وهمهمات بعض الحيوانات المستأنسة للفلاحين، صمت لم يعهده في مدينته الصاخبة، صمت مخيف، ذكره بصمت رهبة المقابر، وراح في خياله يبحث عن الأمان في سكون حذر تفوح منه رائحة خيانة، وفي لحظة  انتفض مفزوعا، فاندفع فكره يصد هيجان الصمت الشرس، وتملكه حنين الاشتياق إلى مدينة عمره، فتراءت له حمامة بيضاء  رابضة في حضن  بساط أخضر، وأغارت عليه الذكريات الجميلة، فجأة توقف خيال الشوق، شعر بثقل يرزح على صدره، يجهل ما هو..  يا الهي، هل حبيبته ألم بها مرض مفاجئ؟ أم مهمومة بغيابه؟ أم حدس خيانة مبيتة؟ أم هي نار توقدت داخل رأسه لأنه لم يأخذ حبيبته معه؟ فهي أيضا في أمس الحاجة للسفر والترويح على النفس، لدرجة لوحت برغبتها في عالم افتراضي كأنها تعرض نفسها للمزايدة.. يشعر أن شيء يرهقه، يشغله، يتعبه في نفسه، ماذا يمكن أن يكون يا ترى؟ تأمل عميقا الطبيعة المنبسطة أمامه، وغاص حسه في جمالية مناظرها إلى أن أرهقه السكون، حينها  داهمه بقوة حنين  صخب  مكان الولادة والحياة، اعتاد في الصخب أن يبكي في صمت، يفكر في صمت، يعاني في صمت، فالصمت في مدينة الصخب كالبحر في سكونه، وهيجانه، وغموضه، فهب بالعودة إليها قبل ان يشله الصمت الساحق، لا يستطيع الاستغناء عن مدينة الضجيج والألم والتناقضات، علاقة بحب غريب تجمعه بها ، يكرهها ويود وصلها، يحب عفة روحها رغم قذارة الجسد، يعشقها بجنون عروة، وقيس، وعنترة ، وروميو، وكلما ابتعد عنها، بسبب ظروف قاهرة ،كلما غلبه الحنين والشوق إليها، ويستسلم لضعفه، ويهرع عائدا إليها، ولا ترتاح له نفس حتى يشتم حضنها الوسخ، كأنه مخدر من نوع نادر..
     أسرع الخطوات إلى سيارته، وبأصابع ترتجف أشغل محرك السيارة، وهو ينظر إلى عينيه مقطب الحاجبين في المرآة المعلقة أمامه، تفكر لثانية، وعدل عن فكرة العودة، وضغط على دواسة البنزين، وانطلقت السيارة تتابع طريقها بسرعة خفيفة إلى مكان يجهله..
     بعد ساعات في طريق ثانوية تصادف السيارة قرية نائية، لم يسبق لرياض أن سمع بها، بحث عنها في الخريطة الرسمية التي معه، ولم يجد لها أثرا، ربما يتطلب ذلك خريطة أكثر تفصيلا..
     إنه  وقت الظهيرة، والشمس محرقة،  كأنها قريبة من الأرض، حشد كبير من الناس يتجمهرون وسط الطريق، التي تخترق القرية الصغيرة، مما يعرقل حركة المرور، فاضطرت السيارة إلى تخفيف السرعة والتنحي جانبا حتى يفسح لها الطريق، فتوقفت إلى جانب موقف خاص بالحمير والبغال  ووسائل نقل تقليدية أخرى، وغير بعيد سيارة الدرك الملكي تعاين انتفاضة المكان، عويل وصياح وبكاء وحركة غير مألوفة تؤجج القرية بكاملها.. ما أثار انتباه رياض هو الحشد الغفير من المتجمهرين، نساء وأطفال ورجال من كل الأعمار، يفوق ساكنة القرية القليلة المنازل على جانبي الطريق.. يترك سيارته، يقوده فضوله ليستفسر في الأمر، ربما هناك تمرد مباغث، كالذي اندلع على غفلة الحكم الطاغي بسيدي بوزيد بتونس، وتوهج لهيبها في مصر واليمن وليبيا وسوريا، ولفح غيرها في أراضي الطغيان، فتملكه الخوف أن يقع ضحية احتجاج غريب عنه، وعليه أن يعود إلى مدينته الوسخة قبل أن يداهمه جنون المتجمهرين، ونهيق الحمير، وصهيل الأحصنة، وشحيج البغال، وصياح الديكة، ونقنقة الدجاج،  وخوار البقر ، وفحيح الأفاعي، وصئي العقارب.. لحظة لفت نظره شيخ وقور، يلبس جلبابا أسودا، يعتمد عصا في سيره البطيء، هدته سنوات العمر، عمر يمتد في عمق زمن القرية الباكية، أسرع إليه رياض وريث برفق على كتفه الأيمن، يلتفت إليه الشيخ، حزين الملامح، تجاعيد وجهه تعطيه الانطباع أنه أمام التاريخ، وبادره رياض بالتحية:
رياض:"السلام عليكم سيدي الحاج ، أرى الناس ينتحبون، يبكون ويولولون، ما الخطب سيدي؟"
      ببطء تطلع إليه الشيخ بعينين حمراوين، أكيد بسبب كثرة البكاء، وبثقة عالية، كمن على صلة وطيدة ومعرفة عميقة بالقرية وأهلها، رد الشيخ التحية ببحة حزينة:
الشيخ:" وعليك السلام يا إبني.. يا بني إنها "الحاجة مباركة"، ماتت المسكينة عند فجر اليوم.. والآن نحن في الطريق إلى المسجد لنصلي عليها صلاة الجنازة، وبعدها إلى متواها الأخير الذي ينتظرنا جميعا.."
رياض:"إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن تكون "الحاجة مباركة"سيدي الحاج؟"
الشيخ :"من لا يعرف "الحاجة مباركة"؟ هي البركة، والرحمة، واليسر، والآمان، هي البارحة واليوم وغدا، وبركتها عمت أرجاء البلاد كاملا، كانت سخية مع النساء، وطيبة مع الأطفال، وحكيمة مع الرجال، ولا تبخل في تقديم المشورة والنصيحة والعون، أحببناها كثيرا، هي الأخت والأم والجدة، هي الحكمة، هي الصبر، هي الحلم، هي الأمل، هي الحياة، هي مفتاح الجنة، كل امرأة كانت تتوق للمبيت في حضنها الصالح الميمون، ولو مرة في الأسبوع، أو الشهر، أو السنة، أو مرة في العمر، لتمنحها البركة  والسعد الدائم.. والمبيت عندها بمثابة شفاعة تمحي الذنوب والمعاصي، فشي طبيعي أن ترى هذا الحشد من ناس الدوار والدواوير المجاورة.. ليرحمها الله، ويلحقنا بها مومنين يا بني.."
رياض:" آمين سيدي الحاج، وأنا محظوظ أن أشارككم صلاة الجنازة على هذه السيدة الفاضلة، لعلي أنال قليلا من بركتها، فعزاؤنا واحد سيدي الحاج.."
      أعداد غفيرة من الناس تدفقت في أثر الجنازة في طريقها إلى المسجد، تبكي، تصيح، تولول، وتكبر بالله، وتدعو بالرحمة والمغفرة للفقيدة الصالحة المباركة.. بعض النسوة فقدن وعيهن، والبعض ينتفن شعرهن ويتمرغن في التراب، وأخريات يندبن ويلطمن خدودهن، والقليل منهن يلفهن الصمت التائه، والأطفال ينتحبون بحرقة بريئة كأنهم تيتموا في أحد الوالدين، ورجال جسروا على ذرف الدموع والولولة كمعظم النساء..
     اكتظ المسجد عن آخره بالمصلين الذين أتوا من جيهات مختلفة ليشاركوا في صلاة الجنازة، لعلهم ينالون قسطا مما تبقى من بركة الفقيدة قبل رحيلها الأبدي، وخارج المسجد لم تتوقف النساء عن البكاء والصياح على رحيل الحاجة النبيلة، وتشتد حرقة بكاء الأطفال لحزن أمهاتهم..
    عند قيام صلاة الجنازة، يقف الإمام خلف جثة المرحومة "الحاجة مباركة"، الممتدة أمامه في كفن خالص البياض، إمام في مقتبل العمر، حديث العهد بالقرية، وخلفه بقلوب حزينة خاشعة يصطف المصلون، أخذ رياض مكانا له بجانب الشيخ، الذي صادف في طريقه،  مباشرة خلف الإمام، الذي التفت حينها إلى المصلين ليتأكد من استوائهم، ثم استدار إلى الأمام، تأهب لإقامة صلاة الجنازة، رفع راحتيه إلى الأعلى حذو الأذنين ليكبر، صمت تام يسيطر على المكان إلا من بكاء وصياح النساء والأطفال الآتي من خارج المسجد، بعد حين يكبر الإمام، ويصرح بجنس الميت:
الإمام:" الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، صلاة جنازة على رجل.."
    نزلت كلمة رجل كالصاعقة، وأطبق الصمت الخانق على المسجد والقرية، لا حركة إلا طنين الذباب، استغربت أعين المصلين مما سمعت آذانهم، شلت ألسنتهم، وأخذوا يتبادلون نظرات بلهاء، ولا أحد يجرؤ على أن ينبس بكلمة.. عند نهاية الصلاة، يلتفت الإمام إلى المصلين، ملامح الاستغراب على وجهه، المسجد شبه خالي تقريبا إلا من رياض، الشخص الغريب عن القرية،  وبعض المصلين من أعمار مختلفة، ربما هم أيضا غرباء عن القرية، حتى الرجل الوقور اختفى، لم يشعر رياض بانسحابه، كأن الأرض ابتلعته، وظل الامام ينقل نظراته في ذهول بين ما تبقى من المصلين الواحد تلو الآخر..
    عند خروجه من باب المسجد، يلف الاندهاش رياض من فراغ الساحة  من الازدحام البشري الذي كان يملؤها قبل قليل، شبه خالية تماما، كان لكلمة "رجل" وقع عميق على القرية بكاملها كقنبلة فاجعة هيروشيما، وانتشر أهلها هاربين من أشعتها المشوهة للحياة، ولشعورهم بالحرج، دفنوا وجوههم في فضاء صامت، وهم يهمسون حكايات رائعة عن أحاسيس مريرة لكي يصونوا شرف وجود مشبوه..
     أسرع رياض إلى سيارته، وهم عائدا من حيث أتى، إلى أرض النفاق وحياة الألم والتناقضات المكشوفة، وانطلقت السيارة بسرعة جنونية، كأنها هاربة من شبح يطاردها.. 
 م. رياضي
البيضاء يونيو 2014

حيرة وجود..

  حيرة وجود .. سمة حورية أسطورية، وعناد نخوة جاهلية، وكبرياء أنثى إنسان، بملامح طفلة غامضة دائمة الحزن والابتسامة، صادفها في حيرة وجود، تا...