vendredi 26 septembre 2014

هدير زمن الرصاص..

 نص:
هدير زمن الرصاص..  

بدوي الطباع ونطق الكلام، شاب في مقتبل العمر، في السابع عشر، ترك أرضه ورحل إلى المدينة، استقر بها، واغترب فيها، لا يهم أية مدينة، المهم أنها بمغرب أواسط السبعينات.. اعتراه فرح عارم لرحيله عن البادية وحلوله بالمدينة، متوسط الطول، نحيف البنية، لكنه يتمتع بصحة جيدة، ومستعد لأية خدمة توفر له قوته اليومي البسيط، وتضمن الاستقرار في صخب المدينة بعيدا عن صمت البادية؛ وبالمدينة اكتنفته سعادة جارفة، واستولت عليه، وعززت عفويته الساذجة إلى أقصى الحدود..
في تيه  الاعجاب الشديد بالمدينة سرعان ما صادف عملا  متعبا لكن يؤمن له المبيت والقوت البسيط، وأكثر من ذلك يمنحه فرصة نسيان قريته إلى حين.. رحب به صاحب حمام تقليدي، وعهد له مسؤولية موقد النار الموجود في أسفل الحمام،  عبارة عن حفرة كبيرة، شبيهة بمغارات العصر الحجري، تتضمن فرن النار، وركام خشب، و مصباح على الحائط، اسود ببراز الذباب، ينير على نفسه.. شرح له صاحب الحمام مهمته التي تنحصر في اضرام النار في الموقد في الصباح الباكر قبل الفجر، والسهر على إبقائها مستعيرة طوال النهار إلى منتصف الليل، لتسخين الماء وتزويد الحمام بالحرارة الضرورية للمستحمين، وحدد له راتبا أسبوعيا، ووعده بالخير والحماية، كما سمح له بالإقامة في مكان عمله دون مقابل.. ولم يكد أن ينهي السيد الكلام حتى علت ابتسامة الانبهار وجه الشاب، ورغم بدائية المكان ورائحة النار والرماد والخشب الممزوجة برائحة العرق المقرفة،  كان له سحر وجاذبية في نفسية الخادم الجديد، فظل للحظة مأخوذا بالهدية السماوية كأنه حقق حلما يستحيل تحقيقه، واعتبر نفسه أسعد مخلوق على الأرض، وسرعان ما اختار، في قرارة نفسه، ركنا خاصا كغرفة للاستراحة والنوم، فلا يهم سعة ونظافة المكان أكثر من راحته النفسية في الفرن بعيدا عن القرية، وعهد نفسه على التفاني والإخلاص في العمل، في اشعال النار في الوقت المحدد لها، وتأجيجها طوال النهار، وضمان سخونة الماء وحرارة الحمام كما أمره سيد الفضل عليه، فلم يعد له ما يشغله سوى نار الفرن، لقد حانت له الفرصة ليعيش حياته كما يريد، وغمرته  سعادة هوجاء ، فاندفعت أحلامه تسابق الزمن ووهج نار الفرن، تنسج خيوط حكايات وحكايات العودة في يوم ما إلى أرض الولادة، إلى القرية بشخصية مغايرة، وسيارة فاخرة، وزوجة فاتنة..
لصاحب الحمام ابن في عمر الشاب البدوي،  شاب طموح له قناعات صامتة، يأتيه ساعي البريد من حين لآخر، على عنوان الفرن، برسائل ومجلات أجنبية.. بعد أسبوعين من حضور خادم الفرن الجديد اختفى الابن فجأة، فلم تسمح الظروف للشاب البدوي أن يتعرف عليه كثيرا، واختفاؤه لم يثر ضجة ولا عويل العائلة، ربما رحل برضا والديه كما ترك البدوي عائلته وأصدقاءه وقريته في صمت تام، ولم يظهر له أثر بعد ذلك، لكن الرسائل والمجلات ظلت تأتي في مواعدها إلى عنوان الفرن، كعادته كل صباح  يمر ساعي البريد بدراجته الهوائية أمام الحمام، وإن كانت لديه رسائل أو مجلات لابن صاحب الحمام  يقذف بها إلى داخل عتبة موقد النار دون أن يتوقف، والأمانة تحتم على الشاب البدوي الاحتفاظ بها حتى يعود صاحبها، لكنه لم يعد، فاستأذن والده في أمرها،  وأمره بالتخلص منها.. فرمى بكل الرسائل في موقد النار، واحتفظ بالمجلات، أتارت اهتمامه صور الفتيات ورجال لا علم له بهم، لينين، ستالين، برجنيف، كاسترو ، تشي فارا.. وصورة المنجل الذي يذكره بالأرض والحرث والبادية.. مجلات من قلب قلعة لينين الحمراء، وبقوة الاعجاب والحنين نزع الصور التي وجدت حنينا في نفسيته وألصقها على حائط ركن جنته السعيدة، ليتأملها، من حين لآخر، طوال النهار وهو يؤجج بحيوية عالية نار الفرن، وفي كل ليلة، بعد منتصف الليل وإخماد نار الفرن، يتمدد في مكان جنته السعيدة ويسرح في الصور ينتظر النوم، وإلى أن يأتيه تأخذه أحلام اليقظة في مغامرات خيالية مثيرة مع إحدى فتيات الصور المعلقة، يسافر عبر الزمن يبني أحلامه في قريته البئيسة، شخص  دو مال وجاه وشهرة، وبرفقته إحدى فتيات الصور المختارة، وهو حافظ القرآن قرر أن يتعلم قراءة اللغة المكتوبة على تلك الصور، يريد أن يتعرف على تلك النسوة، ويتواصل معهن، ربما يثير إعجاب احداهن أو أكثر ..
وقبل أسبوع من يوم عيد وطني أتاه مقدم الحومة لينزع منه  نصيب مساهمته الوطنية في احتفالات العيد، ينزل درج  الفرن، وعند أسفله شدت انتباهه الصور المعلقة على  حائط المرقد السعيد، المنجل، لينين، ستالين، برجنيف، ماو، تشي فارا، وكاسترو، ولمح الشاب البدوي يرمي مجلة داخل الفرن بعد أن نزع منها بعض الصور، وأسرع الخطوات يرحب بالمقدم بحرارة نار الموقد، وراح تخمين المقدم بعيدا، وأطال التأمل في الصور في صمت خبيث، وبعدها التفت إلى الشاب، وتطلع إليه من أخمص قدميه إلى رأسه وعلى شفتيه نصف ابتسامة ماكرة.. ابتهج قلب البدوي، وتدفقت في دمه أحاسيس الاعتزاز النفسي، وتباهى بالصور واستئناسها له في وحدته الساخنة، لم ينطق المقدم بكلمة، وعاد صاعدا الدرج، وأسرع الخطوات أمام ابتسامة عريضة بليدة من الشاب الذي عاد مسرعا ليواصل تسعير نار الموقد..
عند منتصف الليل داهم جنة خادم الفرن أربع زبانية أقوياء البنية،  يتقدمهم المقدم القصير القامة، استفاق الخادم  من نومه مذعورا، تحسس زر المصباح على الحائط بجانبه، وضغط عليه، بصعوبة لاح له وجه المقدم بنظرات ارتياب قاتلة صلبت ابتسامته المعهودة، وما كاد يفتح عينيه حتى سقطت عليه لكمة قوية، نزلت كقذيفة الهاون على وجهه، أفقدته توازنه، وظهرت له نجوم تتلألأ في فضاء الموقد المظلم، وتلتها ركلات أشد لهبا من نار الفرن، انخطف لون وجهه، واسود المكان أكثر في عينيه، ودخل في غيبوبة، وانذمج مع سواد المكان، فطوقوه بينهم، ولم يعد يظهر للعيان، واقتادوه فاقد الوعي، واختفى في الظلمة الدامسة.. ظلت أغراضه في الفرن، واعتقد صاحب الحمام أنه تخلى عن العمل من تلقاء نفسه، وطال عليه أمد الغياب، امتد لسنوات حتى نسيه صاحب الحمام وزبائنه..
مرت سنوات طويلة غامضة ليعود إلى الوجود شبحا آخر، يسير ببطء على حافة الموت، أخذ منه الغياب ما أخذ، داهمته الشيخوخة قبل أوانها، شاب شعره واختفت ابتسامته، وتاهت عفويته، وفقد لسانه، يمشي بصعوبة، منحني الظهر، عيناه جاحظتان لكنه لا يبصر شيئا.. فقد حاضره، ولم يصل مستقبله، ولا يتذكر شيئا من ماضيه، حتى اسمه ضاع منه.. ولا يزال الحمام التقليدي يعمل على عهده الأول..
م. رياضي 
الدار البيضاء، سبتمبر 2014 

jeudi 18 septembre 2014

شرف الكلمة..

شرف الكلمة..

أتاه الأمر من السماء: اقرأ !.. 
وتعرف على أبجديات اللغة ونطق الحروف وتركيب الكلمات، وتعلم القراءة.. أحب الكلمة واستوعبها ، وصدقها، وآمن بها، أحبها ببراءة الطفل، وعندما أخذه العمر أدرك أن لها معاني ودلالات دافئة، حارقة، ثورية، قبيحة ، نبيلة، إيحائية، مباشرة، سلبية، وفية ، خائنة.. وتشبث بالأصل وأبعد بقية التفاصيل، وترسخت المعاني في ذهنه، وتقوى المبدأ في دمه، واتسعت حدود خياله.. لكن في الزمن الساقط الرديء المخزي لم تعد الكلمة وفية لصدقها، وضاع المعنى، وداهمه الخداع، وطعنته الخيانة، وتاه عن نفسه، وعجز على إيجادها، فأعلن الصمت حدادا، وسار طويلا دون توقف، وقرر الانتحار.. لماذا يا ربي؟..
رياضي

الدار البيضاء، سبتمبر 2014

رماد الصيف ..

رماد الصيف ..
في الصيف الأخير انتابتني حالة نفور حاد بسبب طعنة غادرة، وكنت في حاجة إلى فضاء يتجاوز حدود الدار البيضاء والمغرب والعالم العربي، واحتارت أهوائي إلى أين؟ لكن الكلمة في الأخير عادت للإرادة المحدودة التي أخذتني إلى شواطئ الساحل المغربي.. أهوى البحر وأخافه، يسحرني سراب زرقته، ويحيرني هدوئه الخادع، وتدهشني أمواجه الغاضبة، لكن لا أستطيع أن أقاوم جاذبيته، له سحر خاص، يستهويني للغوص إلى الأعماق، أعماق كل شيء.. كنت في حاجة إليه، وهرعت إلى المحيط الأطلسي، وسمحت ل"طوق الياسمين" للأديب العربي "واسيني الأعرج" أن ترافقني في مغامرتي، لم أحدد شاطئا معينا في بدء الرحلة، فقذفتني الرياح إلى أمواج سيدي بوزيد وسيدي عابد وسيدي موسى وسادات آخرين، كأني دون وعي ألتمس بركة سادات وأولياء شواطئ البحر ليتوسطوا لي لدى إله البحر "بوسيدون" لكي يأخذنا إلى الله لعلي أجد أجوبة لأسئلة معلقة وغامضة عن الوفاء والصداقة والحب والوطنية.. لكن هو الآخر خذلني، لم يأتي.. وأنستني "طوق الياسمين" معاناتي في حزنها الجميل، وعدت أدراجي إلى صخب الحياة الملعونة..
رياضي

الدار البيضاء، سبتمبر 2014

قدر مبهم..



قدر مبهم..
تكلمت كثيرا، وأحبته كثيرا، وعانت كثيرا، وأحرقت حس الكلام في ملحمة حروب مفتعلة، أجج لهيبها تحايل من خان العهد، وإعجاب من يلهثون وراء لمسات حميمية عابرة، وأيضا دعوات التملق والتراضي لتأكيد الحضور بالقوة، وبعدها اختصرت المسافات كأنها حققت انتصار رغبات دفينة، وانتهى الأمر.. 
وعادت، لكنها لم تعد كما كانت، شيء فيها انسحب سرعة، أو ربما توهم أنه فيها عندما قرأها في لحظة ضعف، حين اهتز فيه شيء عميق استحضر ذاكرة أحلام مضطهدة في زمن الرصاص والانكسارات القاهرة، فوقع في هواها، وبات يتنفس أنفاسها، ونسي نفسه، إنه عشق اللإنسان السليم الذي يبحث عن إحساس مفقود.. 
وعند ضبطها في واقعة مزعجة، فقدت كل التوازن، ورفضت مواجته، وتنكرت لكل شيء، وفرت هاربة في العناد الفارغ، واختلقت الأوهام، وانزوت إلى الاختفاء، وعانقت من يؤجج نار الفتنة، ونسجت ما يثير الاستفزاز القاتل، وبرعت في تأجيج لهيب الغيرة المدمرة وهي ترقص رقصة الانتحار على أنغام شهرة نار مضطرمة.. 
قدر مبهم لم يختر طريقه لكنه أتاه إلى عالمه الحصين، وداهمه بهدوء النفس المسكونة بالسوء، المكر والخداع، النفاق.. لماذا؟ لا يدري، ويرفض أن يخسر نفسه، ولا يريد أن يخسرها هي أيضا ، لذلك ترك لها نفسه وما تقاسماه، وانسحب..
رياضي

الدار البيضاء، سبتمبر 2014

لغم الصمت..

لغم الصمت.. 
لا يدري ما حل به، فجأة تغيرت ملامحه، أراد الاطمئنان عليها بعد زيارتها طبيب الأسنان، وكانت مكالمتها رصاصة محرقة انفجرت في دواخله، ضحاكات مفتعلة وجدت لها مبررات مقبولة لإشباع ضعف جارف، وأضرمت نار غضب نهشت فكره وحرقت دمه، وأصابتهبانهيار شديد، ولفه حزن صامت، وذهنه لم يعد ملكه، وصار خارج الزمن واللامكان، مهموم يصغي إلى نفسه، وعاجز على ايجادها، فنفسه معها، وهي تتباهى بأحاسيس حالمة تحملها إلى حفل عائلي، وتعمدت لغم الصمت..
طال الصمت، وثقل عليه، وتأججت في دمه حرائق الفقدان، ارتفع ضغطه رغم أنه على يقين من احساسها، ولا يكفيه ذلك، فانفجر على نفسه، وسبحت به لعنة تيه الوحدة والحزن وسخط خيبات الحياة.. وفي مساء اليوم الموالي راسلها في الغياب، وصادف تواجدها في أمسية شاعرية، ولأنها تجد نفسها في الحركات الاستعراضية، لما تمنحها من بطولات وهمية، كلمته بنخوة الكاتبة والشاعرة والإعلامية والفنانة وربما الفيلسوفة، لم ينبس بكلمة، سحب البساط من تحتها ورحل، وترك الحضور القليل يصفق لها ..
رياضي..

الدار البيضاء، سبتمبر  2014

ويبقى الأمل..

 
..
ويبقى الأمل 
وقف مقطب الحاجبين يتأمل البحر، لحظة أسرع الخطوات وقفز إلى عمق أمواج الذكريات ، واشتدت به عواصف مؤلمة، فوجد نفسه في عمق بحر جفت مياهه، وجثم على ركبتيه، وراح يغرس أظافره في الأرض لعله يجد ما ترتوي به أيامه الباقية في زمن الجفاف..
م. رياضي
الدار البيضاء، سبتمبر 2014

mercredi 17 septembre 2014

عاهرة شريفة..

أعتذر من القارئ على بعض الكلمات القبيحة في المجتمع العربي.. رياضي

نص:

عاهرة شريفة،

صباح ممطر من أيام الثمانينات..
يجلس رياض لوحده إلى طاولة في مقهى ضيقة المساحة، ينتابه احساس أنه غريب عن المكان، فغالبية المتواجدين بالمقهى يعرفون بعضهم، ربما لأنهم زبائن منتظمين.. طاولات محدودة العدد، وكل الكراسي مشغولة إلا واحدا بجانب رياض يضع عليه محفظته.. فجأة دخلت المقهى سيدة في الثلاثينيات، سلبت انتباهه واشتهاء نظرات بعض الحاضرين، كأنهم يعرفونها، لها جاذبية مغرية، جميلة الوجه، ساحرة القد، متوسطة الطول، بيضاءة البشرة، متناغمة ألوان الملبس، ترتدي جلبابا عصريا باهت الخضرة، وحول عنقها كشكولا غامق الحمرة، وحذاء لامع السواد، وبيدها محفظة صغيرة الحجم بلون الحذاء، ورغم تواضع ملبسها يصنفها اللامح لها من سيدات الطبقة الراقية، خطأ وقعت في مكان دون مستواها الاجتماعي.. 
ظلت واقفة عند مدخل المقهى، مبللة بمياه المطر مما زادها اغراء وأنوثة طاغية، رماها رياض بنظرات اعجاب سريعة، وأعاد عينيه إلى الأوراق التي بين يديه في انتظار أحد معارفه، على موعد معه لأمر يهمه، في تلك اللحظة يلج الصديق المقهى، قصير القامة، أسود البشرة، بسيط الهندام، وغير متناغم الألوان، هو الآخر مخضل بالماء، لكن لا يثير الانتباه كالحسناء المبللة، دخل راسما ابتسامة بلهاء على شفتيه، بحرارة يسلم على السيدة السالبة العيون كأنه على معرفة وطيدة بها، مما أثار استغراب رياض وتساءل في صمت:" من أين له معرفة هذه السيدة المحترمة؟ "..
دون مستواها الاجتماعي، والدراسي ضعيف جدا، ومهنته بسيطة جدا جدا، علت وجهه ابتسامة سعيدة وهو يحييها بوقار، كأنه خادم أمام أميرة من أميرات القرون الوسطى، يطمئن عليها، ويسألها لماذا لم تأخذ لها مكانا ريثما تتوقف الأمطار، وأومأت برأسها ونظراتها تلف المكان لتؤكد له بعدم وجود كرسي شاغر، فأشار لها بالكرسي القريب من رياض، وأقنعته أنها تتفادى أن تفرض نفسها على شخص لا يعرفها، لأنها لا تضمن ردة فعله عندما يعلم من تكون، ودون تردد دعاها للجلوس على الكرسي المقابل لرياض الذي أزاح محفظته عنه.. أنثى في آية اللباقة والأدب، بحياء اراحت نفسها على كرسي، وتفادت اطالة النظر إلى عيني رياض، لها عينان عسليتان ساحرتان، بدون تقديم أزال الصديق البروتوكول، عرفها برياض، وقدمت نفسها، وارتاحت إليه، وبعد لحظات انفجرت عفويتها، ونطق اللسان.. 

سعاد، بائعة هوى، يعني عاهرة ، باغية، مومس، تمتهن البغاء منذ ثلاث سنوات، يبدأ عملها من العاشرة صباحا إلى أي وقت ينتهي فيه رزق البغاء.. أم لطفلة في السادسة، وزوجها يقضي عقوبة سجنية طويلة المدى، قبض متلبسا في قضية مخدرات، وبكمية كبيرة، ولم يترك لها ما تعيل به نفسها وابنتهما، فدفعتها الحاجة إلى البحث عن عمل، لكنها لا تملك لا شهادة مدرسية ولا تجربة مهنية، فلم تقبلها إلا بعض البيوت كخادمة، تجارب استغلالية عانت فيها ويلات قاسية بين غيرة الزوجات وتحرش الأزواج وكبث الأبناء، وخوفا من أن تلحق زوجها في تهمة بريئة منها، في حالات رفض تهديد الاخضاع، رغما عنها خرجت إلى الشارع، وامتهنت علانية البغاء لتعيل نفسها وابنتها، وأيضا أن توفر مصروف قفة زياراتها الأسبوعية لزوجها، بما فيها علب سجائره.. 
بعد انهاء سرد قصتها الأليمة، دون الشعور بالإحراج والذنب والندم، طرح عليها رياض سؤالا بليدا حول علم زوجها بمصدر مصروف البيت والقفة والسجائر الأسبوعية.. تبسمت باستهزاء، وتمتمت بيأس :"دون أن يسأل.." ، نعم لماذا يطرح السؤال؟ يعلم أنه لم يترك لهما ولا سنتيما.. 
بعد لحظات توقفت أمام المقهى دراجة نارية متهالكة يقودها رجل متسخ، غير مقبول الخلقة، نزلت المرأة التي خلفه، وانصرف قبيح الوجه لسبيل حاله، وأسرعت السيدة إلى الواجهة الزجاجية للمقهى لتتقي قطرات الأمطار. ارتعدت فرائس سعاد عند رؤيتها، وقطبت حاجبيها، فاستفزها رياض بسؤال هازئ حول سبب نفورها عند رؤية السيدة المنافسة، فكشفت له سعاد أن السيدة حديثة العهد بالبيضاء، وواصلت كلامها العنيف:"وأن ذاك "القواد" الذي أوصلها يكون زوجها، وعلى رأس كل ساعة يأتي إليها ليسحب منها ما جنته على حساب كرامتها، لذلك أمقتها، وأنفر منها، وأحتقر ذاك الخنزير الشبيه بالزوج، بل الخنزير أشرف من روحه.."، وصمتت، وغمرت ملامحها سحنة حزن مكفهرة، عندها كانت الأمطار قد توقفت..
وعلى حين غرة، عادت ملامحها إلى طبيعة العمل، واستسمحت وانسحبت مسرعة الخطوات، وتابعها رياض بنظرات فاحصة عبر زجاج واجهة المقهى، فرآها تتجاوز شخصا في الأربعينيات، حالته البئيسة تجيز فيه الصدقة، وكلمته دون أن تلتفت إليه، بعد تجاوزه مباشرة تابع الزبون خطوات سعاد في اتجاه الفندق الموجود في آخر الطريق.. رياضي

حيرة وجود..

  حيرة وجود .. سمة حورية أسطورية، وعناد نخوة جاهلية، وكبرياء أنثى إنسان، بملامح طفلة غامضة دائمة الحزن والابتسامة، صادفها في حيرة وجود، تا...