vendredi 20 juin 2014

رائحة خيانة.. Smell of treason !



اهداء:"إلى كازابلانكا، الدار البيضاء الجميلة القبيحة، مدينة الصخب والمتناقضات.. إلى كل بيضاوي يغير على مدينته غيرته على وطنه.."
نص:


رائحة خيانة
       .....
       منذ مدة ما نال إجازة عمل، وما برح مدينته البرتغالية الاسم"كازابلانكا"، مدينة الضجيج والألم والنفاق، بعناد رفض الخضوع  لسخرية القدر السادي، فجرفه القهر الرهيب إلى عمق الضجر والاكتئاب الحاد،  فبات من الضروري أن يدوس روحه، ويندفع جسده يعدو بعيدا عن أرض الصخب والتناقضات، فأخذ إجازة يومين مع نهاية الأسبوع، لتصبح أربعة أيام، ليمنح نفسه قسطا من الراحة والتأمل والقراءة..
      استيقظ مع تباشير الصبح، وحرص كعادته أن لا يثير أي ازعاج، بهدوء طفق يغير ملابسه، ويتنقل بخطوات سريعة حافي القدمين يعد نفسه لمغادرة البيت، يجمع أقل ما يمكن من حاجياته الضرورية في هروبه..  مضطرب المزاج، مخنوق الخاطر، همه متى يطلق عنان الكيلومترات تأخذه بعيدا عن أرض النفاق دون أن يحدد الوجهة، بل لا يريد حتى نفسه أن تعرف أين سينفي ذاته لأربعة أيام..
     في السيارة اقتحمته رغبة جولة سريعة عبر بعض شوارع البيضاء، فقد تعود القيام بها من حين لآخر في أوقات متأخرة من الليل، أو في الصباح الباكر، ويوميا أيام العطل الدينية، حينها تتنفس كازابلانكا هدوء عابرا يتسابق مع الزمن قبل عودة البطون الجائعة مكشرة عن أنيابها لتنهش هدوء البيضاء المؤقت..
     يقود سيارته بسرعة بطيئة بشارع محمد الخامس، يتأمل هندسة المباني وفن ديكور خيال زمن الاستعباد، في صمت تنتصب وسط دماء شهداء التمرد والحرية ، ويعرج على شارع الحسن الثاني ينظر يمنة ويسرة، مباني بطابع عصري،  عمارات عالية،  واجهات محلات تجارية أنيقة تحاكي حياة الطغاة المبعدين، ثم يدخل شارع محمد السادس، شارع بروح مغربية أصيلة في قلب البيضاء المهمل، عندها اخترقت مخيلة رياض صور من أحياء القهر انبثقت من ظلمة خيانة الوطن، ومن المرآة اليمنى للسيارة تراءت له خيانات أخرى زرعتها وعود انتخابية كاذبة .. أحزنه ذلك كثيرا، فهو يحمل دائما همه في قلبه، ويتيه صامتا، ساكنا، حزينا، متوترا يبحث عن الوطن في مدينته الخانقة، وكلما ضاقت به نفسه يشتد عليه الخناق، وعناده ينفر الرحيل، فيأسره الصمت، شارد الذهن يعاين الفراغ المهلك، في إحدى مقاهي كازابلانكا.. والآن في سيارته يشتد غضبه أكثر، ويضغط على دواسة البنزين، ليهرب من عنف خياله، واستجابت السيارة للسرعة المطلوبة..

     ساعات من القيادة في صمت إلا من أزيز محرك السيارة، ومن حين لآخر، رجات عنيفة بسبب قوة رياح مختلف وسائل نقل الاتجاه المعاكس، لم يتوقف تفكير رياض عن السرحان، سافر إلى الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، لا يدري كيف مرت الساعات، ولا أين وصلت به الكيلومترات التي قطعتها السيارة.. 
     أتعبه الجلوس وإرهاق السياقة، فجأة خفف السرعة ، وأوقف السيارة على جانب الطريق، وسط الطبيعة، تعلقت عيناه في الفضاء المطلق اللا محدود، عينان يغمرهما الحزن عما فات من حياته، وترفضان الآتي المجهول أن يكون تحت رحمة قدر ملعون، وفي حين قلق فضيع، انتابه إحساس رمادي قاتم،  فترجل من سيارته، استنشق عميقا صفاء الطبيعة، وحبس أنفاسه لثوان، وباستياء المراهن على حصان خاسر أطلق سراحها بنفخة ميؤوسة من بين شفتين محبطتين، كأنه تخلص من عبء بغيض، وأطال التأمل في الأفق البعيد، فسكن  لسكون المكان، إلا من تغاريد الطيور وهمهمات بعض الحيوانات المستأنسة للفلاحين، صمت لم يعهده في مدينته الصاخبة، صمت مخيف، ذكره بصمت رهبة المقابر، وراح في خياله يبحث عن الأمان في سكون حذر تفوح منه رائحة خيانة، وفي لحظة  انتفض مفزوعا، فاندفع فكره يصد هيجان الصمت الشرس، وتملكه حنين الاشتياق إلى مدينة عمره، فتراءت له حمامة بيضاء  رابضة في حضن  بساط أخضر، وأغارت عليه الذكريات الجميلة، فجأة توقف خيال الشوق، شعر بثقل يرزح على صدره، يجهل ما هو..  يا الهي، هل حبيبته ألم بها مرض مفاجئ؟ أم مهمومة بغيابه؟ أم حدس خيانة مبيتة؟ أم هي نار توقدت داخل رأسه لأنه لم يأخذ حبيبته معه؟ فهي أيضا في أمس الحاجة للسفر والترويح على النفس، لدرجة لوحت برغبتها في عالم افتراضي كأنها تعرض نفسها للمزايدة.. يشعر أن شيء يرهقه، يشغله، يتعبه في نفسه، ماذا يمكن أن يكون يا ترى؟ تأمل عميقا الطبيعة المنبسطة أمامه، وغاص حسه في جمالية مناظرها إلى أن أرهقه السكون، حينها  داهمه بقوة حنين  صخب  مكان الولادة والحياة، اعتاد في الصخب أن يبكي في صمت، يفكر في صمت، يعاني في صمت، فالصمت في مدينة الصخب كالبحر في سكونه، وهيجانه، وغموضه، فهب بالعودة إليها قبل ان يشله الصمت الساحق، لا يستطيع الاستغناء عن مدينة الضجيج والألم والتناقضات، علاقة بحب غريب تجمعه بها ، يكرهها ويود وصلها، يحب عفة روحها رغم قذارة الجسد، يعشقها بجنون عروة، وقيس، وعنترة ، وروميو، وكلما ابتعد عنها، بسبب ظروف قاهرة ،كلما غلبه الحنين والشوق إليها، ويستسلم لضعفه، ويهرع عائدا إليها، ولا ترتاح له نفس حتى يشتم حضنها الوسخ، كأنه مخدر من نوع نادر..
     أسرع الخطوات إلى سيارته، وبأصابع ترتجف أشغل محرك السيارة، وهو ينظر إلى عينيه مقطب الحاجبين في المرآة المعلقة أمامه، تفكر لثانية، وعدل عن فكرة العودة، وضغط على دواسة البنزين، وانطلقت السيارة تتابع طريقها بسرعة خفيفة إلى مكان يجهله..
     بعد ساعات في طريق ثانوية تصادف السيارة قرية نائية، لم يسبق لرياض أن سمع بها، بحث عنها في الخريطة الرسمية التي معه، ولم يجد لها أثرا، ربما يتطلب ذلك خريطة أكثر تفصيلا..
     إنه  وقت الظهيرة، والشمس محرقة،  كأنها قريبة من الأرض، حشد كبير من الناس يتجمهرون وسط الطريق، التي تخترق القرية الصغيرة، مما يعرقل حركة المرور، فاضطرت السيارة إلى تخفيف السرعة والتنحي جانبا حتى يفسح لها الطريق، فتوقفت إلى جانب موقف خاص بالحمير والبغال  ووسائل نقل تقليدية أخرى، وغير بعيد سيارة الدرك الملكي تعاين انتفاضة المكان، عويل وصياح وبكاء وحركة غير مألوفة تؤجج القرية بكاملها.. ما أثار انتباه رياض هو الحشد الغفير من المتجمهرين، نساء وأطفال ورجال من كل الأعمار، يفوق ساكنة القرية القليلة المنازل على جانبي الطريق.. يترك سيارته، يقوده فضوله ليستفسر في الأمر، ربما هناك تمرد مباغث، كالذي اندلع على غفلة الحكم الطاغي بسيدي بوزيد بتونس، وتوهج لهيبها في مصر واليمن وليبيا وسوريا، ولفح غيرها في أراضي الطغيان، فتملكه الخوف أن يقع ضحية احتجاج غريب عنه، وعليه أن يعود إلى مدينته الوسخة قبل أن يداهمه جنون المتجمهرين، ونهيق الحمير، وصهيل الأحصنة، وشحيج البغال، وصياح الديكة، ونقنقة الدجاج،  وخوار البقر ، وفحيح الأفاعي، وصئي العقارب.. لحظة لفت نظره شيخ وقور، يلبس جلبابا أسودا، يعتمد عصا في سيره البطيء، هدته سنوات العمر، عمر يمتد في عمق زمن القرية الباكية، أسرع إليه رياض وريث برفق على كتفه الأيمن، يلتفت إليه الشيخ، حزين الملامح، تجاعيد وجهه تعطيه الانطباع أنه أمام التاريخ، وبادره رياض بالتحية:
رياض:"السلام عليكم سيدي الحاج ، أرى الناس ينتحبون، يبكون ويولولون، ما الخطب سيدي؟"
      ببطء تطلع إليه الشيخ بعينين حمراوين، أكيد بسبب كثرة البكاء، وبثقة عالية، كمن على صلة وطيدة ومعرفة عميقة بالقرية وأهلها، رد الشيخ التحية ببحة حزينة:
الشيخ:" وعليك السلام يا إبني.. يا بني إنها "الحاجة مباركة"، ماتت المسكينة عند فجر اليوم.. والآن نحن في الطريق إلى المسجد لنصلي عليها صلاة الجنازة، وبعدها إلى متواها الأخير الذي ينتظرنا جميعا.."
رياض:"إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن تكون "الحاجة مباركة"سيدي الحاج؟"
الشيخ :"من لا يعرف "الحاجة مباركة"؟ هي البركة، والرحمة، واليسر، والآمان، هي البارحة واليوم وغدا، وبركتها عمت أرجاء البلاد كاملا، كانت سخية مع النساء، وطيبة مع الأطفال، وحكيمة مع الرجال، ولا تبخل في تقديم المشورة والنصيحة والعون، أحببناها كثيرا، هي الأخت والأم والجدة، هي الحكمة، هي الصبر، هي الحلم، هي الأمل، هي الحياة، هي مفتاح الجنة، كل امرأة كانت تتوق للمبيت في حضنها الصالح الميمون، ولو مرة في الأسبوع، أو الشهر، أو السنة، أو مرة في العمر، لتمنحها البركة  والسعد الدائم.. والمبيت عندها بمثابة شفاعة تمحي الذنوب والمعاصي، فشي طبيعي أن ترى هذا الحشد من ناس الدوار والدواوير المجاورة.. ليرحمها الله، ويلحقنا بها مومنين يا بني.."
رياض:" آمين سيدي الحاج، وأنا محظوظ أن أشارككم صلاة الجنازة على هذه السيدة الفاضلة، لعلي أنال قليلا من بركتها، فعزاؤنا واحد سيدي الحاج.."
      أعداد غفيرة من الناس تدفقت في أثر الجنازة في طريقها إلى المسجد، تبكي، تصيح، تولول، وتكبر بالله، وتدعو بالرحمة والمغفرة للفقيدة الصالحة المباركة.. بعض النسوة فقدن وعيهن، والبعض ينتفن شعرهن ويتمرغن في التراب، وأخريات يندبن ويلطمن خدودهن، والقليل منهن يلفهن الصمت التائه، والأطفال ينتحبون بحرقة بريئة كأنهم تيتموا في أحد الوالدين، ورجال جسروا على ذرف الدموع والولولة كمعظم النساء..
     اكتظ المسجد عن آخره بالمصلين الذين أتوا من جيهات مختلفة ليشاركوا في صلاة الجنازة، لعلهم ينالون قسطا مما تبقى من بركة الفقيدة قبل رحيلها الأبدي، وخارج المسجد لم تتوقف النساء عن البكاء والصياح على رحيل الحاجة النبيلة، وتشتد حرقة بكاء الأطفال لحزن أمهاتهم..
    عند قيام صلاة الجنازة، يقف الإمام خلف جثة المرحومة "الحاجة مباركة"، الممتدة أمامه في كفن خالص البياض، إمام في مقتبل العمر، حديث العهد بالقرية، وخلفه بقلوب حزينة خاشعة يصطف المصلون، أخذ رياض مكانا له بجانب الشيخ، الذي صادف في طريقه،  مباشرة خلف الإمام، الذي التفت حينها إلى المصلين ليتأكد من استوائهم، ثم استدار إلى الأمام، تأهب لإقامة صلاة الجنازة، رفع راحتيه إلى الأعلى حذو الأذنين ليكبر، صمت تام يسيطر على المكان إلا من بكاء وصياح النساء والأطفال الآتي من خارج المسجد، بعد حين يكبر الإمام، ويصرح بجنس الميت:
الإمام:" الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، صلاة جنازة على رجل.."
    نزلت كلمة رجل كالصاعقة، وأطبق الصمت الخانق على المسجد والقرية، لا حركة إلا طنين الذباب، استغربت أعين المصلين مما سمعت آذانهم، شلت ألسنتهم، وأخذوا يتبادلون نظرات بلهاء، ولا أحد يجرؤ على أن ينبس بكلمة.. عند نهاية الصلاة، يلتفت الإمام إلى المصلين، ملامح الاستغراب على وجهه، المسجد شبه خالي تقريبا إلا من رياض، الشخص الغريب عن القرية،  وبعض المصلين من أعمار مختلفة، ربما هم أيضا غرباء عن القرية، حتى الرجل الوقور اختفى، لم يشعر رياض بانسحابه، كأن الأرض ابتلعته، وظل الامام ينقل نظراته في ذهول بين ما تبقى من المصلين الواحد تلو الآخر..
    عند خروجه من باب المسجد، يلف الاندهاش رياض من فراغ الساحة  من الازدحام البشري الذي كان يملؤها قبل قليل، شبه خالية تماما، كان لكلمة "رجل" وقع عميق على القرية بكاملها كقنبلة فاجعة هيروشيما، وانتشر أهلها هاربين من أشعتها المشوهة للحياة، ولشعورهم بالحرج، دفنوا وجوههم في فضاء صامت، وهم يهمسون حكايات رائعة عن أحاسيس مريرة لكي يصونوا شرف وجود مشبوه..
     أسرع رياض إلى سيارته، وهم عائدا من حيث أتى، إلى أرض النفاق وحياة الألم والتناقضات المكشوفة، وانطلقت السيارة بسرعة جنونية، كأنها هاربة من شبح يطاردها.. 
 م. رياضي
البيضاء يونيو 2014

حيرة وجود..

  حيرة وجود .. سمة حورية أسطورية، وعناد نخوة جاهلية، وكبرياء أنثى إنسان، بملامح طفلة غامضة دائمة الحزن والابتسامة، صادفها في حيرة وجود، تا...