lundi 20 juin 2011

! المواطن الإنسان Citoyen Homme

إهداء:
إلى شهيد العرب طارق الطيب محمد البوعزيزي، الشاب التونسي البسيط الذي أضرم النار في نفسه وأسقط الدكتاتوريات العربية.
نص:
المواطن الإنسان!

 خرج مرغما إلى عالم الحركة والكلمة، يصرخ بكل قواه في وجه الفضاء المجهول، كأنه يحث على مطالب أكبر وأسمى.   منذ البصمة الأولى كان يسترعي انتباه الآخرين بشكل صارخ؛ عيناه العسليتان، كانتا تحملان عدة استفسارات، تستفز المستور الذي يلف حوله، والطبيعة، رغم قسوة الزمن، لم تنسها هواجسها أن تزرع فيه الحدس النزيه، وتلقنه مبادئ ممارسة الحق،  حتى لا يعيش إنسانا مفقودا  يحتقره ظله، ومشى في المجهول! 
بعزة النفس يحمل قدره، وراح يبحث عن البديل لشيء يقلقه، ويؤزمه في كرامته، أدرك أن شيئا سيحدث قريبا، بعد يوم، أسبوع، سنة أو أعوام، ليقتلع الليل من سباته الطويل.. السذاجة وعزة النفس، التي امتصها من ثدي الطبيعة الطيبة، صنعت مفعولها في شرايينه، فكان يمارس في الأعماق رفضا لما يحدث أمامه، فنقبوا عن ثغرات لاغتيال شكوكه اليقينية.. بعفة طرد عن نفسه نزوة لعق رحم الإغراء المثير، وبثقة رفض الرحيل إلى وراء البحر لبناء ما دمرته حروب الأرض العجوز الشمطاء. أحس المرارة تقطر من عيونهم، أدرك، حينها، أنهم سيقذفون به جثة هامدة بعد أن يمتصوا دماءه، ففضل أن ترتوي بها التي أرضعته، وضاقت الويلات من أجل بقائه، وأبى المقايضة مع الذين كانوا يهابون أشياء لا تبعث على الخوف، فتواطؤوا مع إبليس ضده، واستسلموا للخيانة، وتواروا إلى الخلف، تلفهم البلادة، وانتصبوا في أبراج من الخيال، وأفرزوا خلايا تحرص على راحة حماة الفوضى، مما جعل اللصوصية ممارسة عادية أمام أعينهم، فاهتاجت الأرض غضبا صارخا، وقالت للسماء:

ـ "أوصيك خيرا بابني.."

فتمردت السماء، وأمطرت عيونها طوفانا، فغمرته عاصفة القتال، لأنه واثق أن هناك إخوة في الرضاع لن يخذلوه، لقد أقسموا أن يعتقوا كرامتهم التي تعصرها حوافر جائعة متوحشة في زمن حصار الجسد والفكر، فوقف بنفور في وجه الاكتئاب وموت الإحساس، مما أفقد أولئك البلداء واللصوص صوابهم، فصنعوا أقنعة أخرى، وهاجت أشواقهم لموت غريزي. كان يموت لينبعث من أشلائه، ويتوغل من جديد في أحضان الطبيعة، الأم،  يبحث عن المفقود.. يبحثون عن بعضهم البعض عبر الأدغال الموحشة، والفجاج الوعرة، والمصايد المدبرة.. كان يغوص في عمق المعاناة لتحيى الكرامة، واستسلم لنار قدره، وغدا يحترق، وسقطت الأبراج الحديدية، الواحد تلو الآخر؛ ورغم المرارة، مازالوا يشهدون أن بإمكان صاحبنا خلق المعجزات في هذا الزمن الرديء، ومازالوا يشهدون أنه كان فعلا مواطنا إنسانا!

                                                                      محمد رياضي
                                                                   البيضاء، يونيو 2011

lundi 13 juin 2011

!الدبلجة: فن، هوية، واستثمار

!الدبلجة: فن، هوية، واستثمار
قوة تميز العمل المدبلج في حسن اختيار القصة المناسبة للمجتمع، وفي أمانة الترجمة، ومصداقية الدبلجة.

       لم نتساءل مرة إن كان صوت "بيتر فولك"، بطل السلسلة البوليسية المشهورة "كولومبو"، في نسختها الفرنسية، التي قدمت للمشاهد المغربي في بحر السبعينات، هو صوت البطل نفسه، أم استلف اللسان الفرنسي من شخص آخر، كغيره من عمالقة الفن السابع كستيف ماكوين، شارل برونسون، آنتوني كوين، جون وين، كلين استوود، بروس لي، صوفيا لورين.. !؟ أكيد استلف الصوت الفرنسي ليحل مكان صوته الأصلي. هذه العملية تدعى بالدبلجة، ومصطلح الدوبلاج، من أصل فرنسي Doublage، تعني الترجمة الصوتية للعمل الفني، باستبدال اللغة الأصلية بلغة أو لغات بديلة، مسح شامل للأصوات الحوارية الأصلية في العمل الأصلي، وإعادة إنتاج نفس العمل بأصوات ولغات أخرى، لغاية بثه في بلدان لا تتكلم اللغة التي صور بها في الأصل، حتى يتمكن من متابعته وفهمه أكبر عدد من مشاهدي اللغة التي دبلج إليها. وتتم عملية الدبلجة بالنسبة للأعمال الفرانكفونية بالأساس في فرنسا، بلجيكا، وكندا، وتتميز أعمالها بتقنية عالية في دقة تركيب الصوت البديل على الصورة الأصلية، والاستعانة بأشهر الممثلين لتنفيذ عملية الدوبلاج، وخاصة في أفلام الكرتون الموجهة للأطفال، إيمانا بالمسؤولية - فكرية واجتماعية وتاريخية وتربوية - تجاه المشاهد الطفل، رجل الغد القريب..  أما في العالم العربي فلبنان كان السباق إلى فتح باب الدبلجة إلى العربية، وكان الدافع حينها تعويض نقص الإنتاج الدرامي المحلي بإنتاجات قليلة التكلفة، وكانت البداية بدبلجة الرسوم المتحركة في بحر السبعينات، ثم  المسلسلات اللاتينية خلال الثمانينات؛ بعد لبنان تشجعت الأردن ثم سوريا..، وأتقنت بعض مؤسساتها إنتاج أعمال مدبلجة مختلفة الصنف.
ليس الغرض من هذه الورقة استحضار تاريخ الدبلجة، ولا يهم من السباق، وإنما التعريف بهذا الفن، وطرح التجربة المغربية، المولود القديم الجديد، وأفاق نجاحها داخليا، وتحديات فرض الهوية اللغوية في سوق الدبلجة العربية.
الدبلجة  تقنية فنية، وهوية لغوية، واستثمار
       يعتقد الكثيرون أن الدوبلاج  عملية ترجمة واستلاف الصوت فقط، وفي الواقع هي عملية متكاملة ومتماسكة، تضبطها تقنيات فنية ضرورية لإنجاحها كي تظهر وكأنها النسخة الأصلية بالصوت والصورة. فالدبلجة فن صعب من الفنون الحديثة، التي تولد مع ظهور السينما الناطقة، وتطور مع التلفزيون وثورة التكنولوجيا الإعلامية على العموم، حيث تبلورت مهن مختصة بالدبلجة، وأنشأت مؤسسات خاصة بالعمليةDoubleur ، وتطورت آليات الإتقان الفني لضبط تطابق الأصوات المدبلجة مع مشاهد  النسخة الأصلية. فالعملية تحكمها، من جهة، أخلاقيات المهنة، ومن جهة أخرى، قدرات المهارة التقنية، يشمل ذلك أمانة ترجمة النصوص الحوارية، والدقة في اختيار الكلمات، والكفاءة التقنية المتمكنة في المكساج، وتحديد المقاطع الصوتية الملائمة، وحسن اختيار مدير البلاتو، المتعارف عليه دوليا بالمدير الفني، الذي يشرف على مراحل انجاز العملية من البداية إلى النهاية.
بعد التوفيق في اختيار القصة الفيلمية المناسبة للمجتمع، تأتي مرحلة معاينة النسخة الأصلية، وفهم القصة والموضوع، وتركيبة الشخصيات، وعلاقات بعضها ببعض، واستيعاب أبعاد العمل، ثم قراءة النص المترجم، ومقارنته مع النص الأصلي، والموافقة على الترجمة، وبعدها يعمل المدير الفني على اختيار الأصوات البديلة المناسبة، ثم تأتي المرحلة التقنية للدبلجة الصوتية وتطابقها مع النص المصور، تقنية صعبة ودقيقة التركيز، تستلزم توفر مهارات فنية متمكنة. تتم العملية في استوديوهات خاصة، حيث تعرض المادة المصورة، وتخضع عبر مراحل متكاملة لعملية مكساج  الأصوات البديلة، مصاحبة بالموثرات الصوتية الدرامية في النسخة الأصلية؛ وهي المرحلة الأصعب، لأنها تعتمد على ضبط مخارج الحروف والتطابق بين الصوت المسموع وشفتي الممثل في تتابع مشاهد العمل الأصلي. فالدبلجة لا تتوقف عند ترجمة النص الدرامي الأصلي إلى لغة معنية، وإيجاد أشخاص ليقرؤوا النصوص الحوارية المترجمة، وإنما البحث عن صوت الممثل المناسب للشخصية المؤدية في المشهد الأصلي، والشخص الذي يمنح صوته، ممثل موهوب وفنان، على دراية بحرفية العمل الإذاعي، والتلفزيوني والسينمائي، وهذا لا يكفي بل لابد أن يتمتع بالقدرة على التشخيص الصوتي، مما يجعل ضرورة التجربة المسرحية قائمة وملازمة للتكوين الأساسي لشخصيته الفنية. ودور الممثل، الذي يؤدي الدبلجة، لا يتوقف عند قراءة ترجمة ما كتب له من النص الحواري، وإنما يتدخل، إن دعت الضرورة الفنية، لتغيير كلمة وصياغة الحوار  المناسب لحركة  الشفاه ومدة المقطع الحواري في المشهد الأصلي، ولا يكفي أن يمتلك صوتا رنانا، وإنما أن يكون فنانا متمكنا في التعبير الصوتي، والإحساس بالكلمة وموقفها الدرامي ليكشف حالة الممثل في خضم الأحداث الدرامية في العمل الأصلي، فالحوار الصوتي البديل يتقمص شخصية ومشاعر الممثل الأصلي، يتعايش معه في فترته العمرية، وانتمائه الاجتماعي، وتركيبة شخصيته، وعلاقاته مع الشخصيات الأخرى، يعبر عن أحاسيسه وانفعالاته؛ بمعنى آخر، بالصوت يعيش الحالات النفسية للممثل الأصلي، وهذه ليس بالمهمة السهلة.
التجربة المغربية، المحاولة والآفاق
      دخل المغرب في الأشهر الأخيرة، من السنة الماضية، تجربة الدبلجة إلى اللهجة المغربية، ومن الطبيعي أن تثير المحاولة الكثير من الانتقادات، خصوصا وأن لهجتنا، كما يدعي أشقاؤنا في المشرق، صعبة، بل هناك من المغاربة من يشمئز منها، لأن أذناه تعودتا سماع عاميات عربية أخرى، بالخصوص المصرية واللبنانية والسورية والآن الخليجية أيضا، في الوقت الذي ظلت عاميتنا متقوقعة في الحدود الجغرافي للتواصل اليومي الجاف للكلمة. والأعمال التلفزيونية، منذ البدايات، لم تعمل على إنتاج وبلورة عامية تلفزيونية بسيطة، سلسة، ومقبولة؛ فالتمثيليات، أو ما يطلق عليها "سكتشات"، كان ولا يزال، الغرض منها الإضحاك، فكانت تسيء، في مواقف هزلية ساخرة، استعمال العامية لإضحاك الجمهور بعضهم على بعض، إساءة لهجة جهة على حساب لهجة جهة أخرى، إساءة  مست جمهور  الجهات كالفاسي، العروبي، الشلح، الجبلي، وغيرها من تعقيدات العالم المتخلف، الذي ننتمي إليه، فلم تساهم تلك السكتشات في تطوير لغة تلفزيونية نظيفة وسلسة تغزو الآذان والقلوب والعقول المغربية قبل العربية. وذلك غير مستعصي على اللهجة المغربية، لأنها عامية قريبة من اللغة العربية، مشكلتها أنها لم تحظ، على المستوى الحكومات المتعاقبة، بالاهتمام والدعم والترويج لا داخل المغرب ولا خارجه، وتركت في حدود الواقع المعيشي للإنسان المغربي.
مسؤولية ودعم، وتخطيط
      مقارنة مع تكلفة الإنتاج الدرامي المحلي، الدبلجة أقل تكلفة، ودعم التجربة ستنعش مختلف المهن التقنية، المرتبطة بالعملية، مما سيكون له أثر إيجابي في تطوير تقنيات العمل  الفني على مستوى هندسة الصوت والصورة  والتشخيص الصوتي، والإخراج أيضا.. وبصفة عامة على تطوير المهن  المتعلقة بالإنتاج الدرامي التلفزيوني والسينمائي.. تراكم التجارب أكيد سيؤثر إيجابا في تطوير النص الحواري، فبعد ثلاث محاولات، "آنا" و "أين أبي؟" من أمريكا اللاتنية، و"فايدهي" الهندي، يلاحظ أن المادة اللغوية في العمل الثالث أحسن من الثاني، والثاني أحسن من الأول، مع العلم أن  التجربة لاتزل في بداياتها الأولى، وأخذت تستأنس بها نسبة من المشاهدين، وانتقاد التجربة سيساهم في تطور تقنية وفنية المنتوج الدرامي على العموم؛ إنها غيرة المشاهد على لغته الشعبية التلفزيونية، لتفرض وجودها، إلى جانب اللهجات الأخرى، في سوق القنوات العربية.. فمصر الشقيقة، على حد معرفتي، المتواضعة، القريبة من تاريخ الدراما المصرية، لم تضع مخططا لغزو الوطن العربي لغويا، وإنما هناك ظروفا تاريخية وإعلامية ساعدت على تقريب اللغة إلى المشاهد العربي،  حتى اعتاد اللهجة المصرية. نجد في الأساس الأول الراديو ومختلف أغاني أعلام الطرب المصري، ثانيا العروض المسرحية، ثالثا السينما والأعمال التلفزيونية؛ فمثلا على الصعيد السينمائي، كانت الغاية في الأساس دعم الصناعة الجديدة، السينما في بداياتها المصرية، كاستثمار وطني،  مع مرور السنوات هيمنت على السوق العربية، السينمائية والتلفزيونية، كصناعة مصرية الجنسية، أما انتشار العامية المصرية فلم يأت كتمرة تخطيط استراتيجي، وضع في الأساس، من أجل ذلك. وكذلك مع الدبلجة، كصناعة حديثة، لم تكن عند الإخوان اللبنانيين الهوية اللغوية هاجسا في البداية، وإنما لسد نقص في الإنتاج المحلي، ونجحت التجربة، وباتت استثمارا تجاريا مربحا، وهيمنت على سوق الدبلجة، مما دفع  الأردن وسوريا إلى دخول التجربة، وأصبحت اللهجة السورية واللبنانية التلفزيونية مألوفة لدى المشاهد العربي، في حين تركوا اللغة العربية الفصحى للأعمال التاريخية.
محاولة الانطلاق إلى فضاء البيت العربي
       كذلك نحن المغاربة، لا يجب أن نظل سلبيين ومستهلكين لإنتاجات ولهجات الغير، تحت ذريعة لن تتجاوز الدبلجة المغربية الاستهلاك المحلي، وبالتالي فالعملية مكلفة وغير مربحة، لكن بهذه الخطوة بدأ الاستثمار الفعلي في المشرق، وبعد سنوات من العمل الشاق والتضحية انتعشت تجارة الدبلجة. علينا أن نصنع لغتنا التلفزيونية، أن ننقحها ونطورها كلغة تلفزيونية بسيطة، سلسلة، مفهومة، يرتاح  لها المشاهد المغربي، من شماله إلى جنوبه، قبل المشاهد العربي من شرقه إلى غربه.
وتميز العمل المدبلج يشترط حسن اختيار القصة المناسبة للمجتمع، وأمانة الترجمة، ومصداقية الدبلجة؛ وتحقيق هذا التميز يستلزم التضحية، والجهد الشاق، والمسؤولية  المؤسساتية بين  التي تمول عملية الدبلجة، والتي تقوم بتنفيذها، والوزارة الوصية، بدعم حكومي، في وضع تخطيط استراتيجي لترويج المنتوج الدرامي الوطني، وتعزيز الهوية اللغوية التلفزيونية، عربية كانت أم أمازيغية، في فضاء البيت الوطني والإقليمي والعربي، وأنا على يقين، رغم صعوبة التحدي، أنه، بعد 5 أو 10 أو 15 سنة، ستثير اللهجة المغربية اهتمام المشاهد العربي، وتفرض مكانتها في سوق الأعمال المدبلجة.


                                                                محمد رياضي
                                                                 إعلامي
                                                                 الدار البيضاء، يونيو 2011


mercredi 8 juin 2011

!صرخة الموقف النقدي

صرخة الموقف النقدي!
تحية من نوع خاص إلى أي  مسؤول يخاف النقد الذاتي!!!
لست مسؤولا على مستوى ضعف فهم وتأويلات مرضى النفوس.
عندما يصطدم الضمير بمزاجية القامع للموقف النقدي المسؤول، وما يترتب عن ذلك من إشكاليات هدر هامش حرية الرأي والنقد البناء، وانتعاش ثقافة الولاء الزائف، والتراضي النفعي الانتهازي، وسياسة الترقيع الوظيفي والمؤسساتي، أكيد تنشل الحركة التنموية، ويتوقف زمن العقل والتطوير، ويحبل فضاء المجتمع بغليان حقد الفوضى والتدمير الاجتماعي والوطني، المادي والمعنوي ..
لوحات عاصفة بأنين وصراخ الكلمات
في ظل مزاجية شد الحبل وخنق حرية الرأي، من حين لآخر، أتوقف للحظة، وأسافر إلى زمن البراءة.. يشتد ارتجاجي بسبب صداع داخله.. أصوات لم تفارقني طوال حياتي..  يحتد وقعها أكثر عند عتمة اليأس وجاذبية الإغراء، فأستفيق على وعي يعمق التيه في داخلي، ويشتد الارتجاج أكثر فأكثر..
صدّقت تلك الأصوات، وأنا صغير، وتشبثت بها، وترعرعت عليها، شكلت مفاهيمي وقيمي، وقيدت تكوين شخصيتي، ونمط تفكيري، أثرت في سلوكي، وطباعي، ومواقفي؛ وكلما انغمست في واقع الحياة، تصدمني وحشية المجتمع، وتتوتر أعصابي، وأنكمش داخل الصمت، أتأمل الفراغ، وأترقب المجهول، وفي حالات اليأس القاتم، تخترق أصوات الطفولة وجودي، لتمنعني من الارتداد والانحراف عن الطريق السليم.. وفي خضم القلق تتوتر أعصابي؛ ويغريني بياض الورق، ويتملك ذهني اعتصار عصيب، كأني أبحث عن استقرار نفسي؛ فأشعر بقوة غريبة تخترق كياني، وبلمح البصر ينجذب القلم نحو أناملي، وتتغير ملامحي، أتلوى وأرتعد، وأصبح خارج السيطرة، كمن يعاني من داء الصرع.. وتتصلب أعصابي، تعتصر الحبر الأسود، على بساط الورق الصافي البياض، معاني مستفيضة بدبدبات ذهنية.. ولا أعود إلى حالتي الطبيعية إلا بعد انتهاء الموجات الذهنية، لأجد نفسي أمام لوحات عاصفة بأنين وصراخ الكلمات، تجاوزت الشخصي إلى ما هو وطني وإنساني.. ولأنها لم تعد ملكي، تتمرد، وتستقل بنفسها، وبعد أيام تنتزع لها مكانا في منبر صحفي اخترته باقتناع تاريخي وأخلاقي ومهني.. وفي كل مرة يشتد الارتجاج أعيش العاصفة..
شيطاني و هستيرية أبي لهب
وبعد رحيل طويل وعنيد أدركت أن تلك الأصوات الصاخبة في داخلي أعاقت، ولا تزال، تحقيق حقوقي وأحلامي البسيطة.. حاولت، ما مرة، خنقها وتخليص ذاكرتي منها، وأهادن زمن الحياة الوضيعة، وفي كل مرة أخسر المحاولة.. فمن شب على طباع شاب عليها.. فلفتني الأصوات المتمردة في صمت رهيب..
وكلما تململ شيطاني المتمرد، وأفصح عن قناعاتي الفكرية، والوطنية، والقومية، والإنسانية، كلما يثير ذهول، وذعر، وغيض المحتالين ومن في قلوبهم فساد.. تخترقهم دلالات المعاني، ويستشعرون أن عاصفة آتية لا محالة، فتنتابهم هستيرية أبي لهب، ويضمرون لصاحب اللوحة الصاخبة الحقد والكره المبيت.. لا أعير أي اهتمام لخبثهم الثعلبي، لقناعتي أني لست مسؤولا على مستوى ضعف فهم وتأويلات مرضى النفوس.. المهم أن لا أخسر نفسي وليقع الطوفان.. في صمت أواكب الأحداث، ألاحظ، وأسجل، ومن حين لآخر تتملكني العاصفة، وتتفجر انتقاداتي ومحاكماتي الرمزية، تحارب ما يعيق صحوة الضمير، ضمير تنمية وتطوير الوطن، والهوية، وإنسانية الإنسان..
وفي خضم الصراع،  أقاوم.. أقاوم.. وأقاوم كي لا أفقد إنسانيتي.. مقالة وراء مقالة.. محاكمة وراء محاكمة.. لم أترك أي أمل لإغراءات المحتالين والفاسدين، الذين حاولوا شراء ميولاتي، فمزاجية سيدهم، المستبدة الماكرة ، وعدتهم بالمستحيل إن أقنعوني بإرضاء وهم إشباعها، والانضمام إلى هواها، لكن أصوات زمن البراءة لا تهدأ، ترفض ألتمسكن، والرضوخ، والاستسلام، وترفرف بي إلى سماء حالمة، وقلبي يتهجى أبجدية الفردوس الموعود. فتتهجم دواخل النفوس الفاسدة، وتتحرك، وتنفخ زوبعة في نفسية حاميها الفاسد، ويصدر القرار الجائر في حق "حرية التعبير"، ويبيت فخ وضعية مأزقية تؤدي إلى الانهيار، أو الاستسلام، أو عزلة متناسية توتر الوجود..
الأناكوندا و النقد الذاتي
كيف نحقق النماء والتطوير إن عمدت مزاجية القامع المريض، تحت أي ذريعة ، إلى نزع البراءة عن حرية الرأي، لتستبيح نهب صمودها، وتشن عليها حرب عصابات خفية، وتعيث عيونها البليدة فسادا في معان الصمت، لعل النقد الذاتي يفقد شيئا من شهامته الموروثة، ويغمى عليه، ويعتقل دون محاكمة، ويقضى عليه بالضم وقوة العصر والخنق حتى الموت،  على غرار ما تفعله أفعى "الأناكوندا" مع ضحاياها.. أتساءل ما هي حدود حرية الرأي والنقد الذاتي المسؤول داخل المؤسسة؟ هل تتوقف عند عتبة المؤسسة التي يعمل بها صاحب الرأي؟ أم أن لها معايير خاصة تسمح وتمنع لمن تشاء؟ وكيف يمكن أن ننمي ونطور مؤسساتنا الوطنية، كانت إجتماعية، اقتصادية أو إعلامية أو غيرها..؟   
الجرأة والوقاحة بين الأمس واليوم
 عندما أفكر في حرية الرأي المضطهدة ألاحق خطواتي المتعبة، أتوغل في الفراغ اللامتناهي، وأتلاشى في الخيال، وصراخ أصوات البراءة  لا يهدأ في ذاكرتي.. يرتفع الصراخ، ويرتفع، ويرتفع  إلى مستوى سلطة المنع الطاغي.. فألتزم الصمت الصارخ بالرفض. والتزام الصمت، لا يعني التخلي عن الحق، فحق حرية الرأي يخوله القانون والدستور الوطني، وتزكيه المواثيق الدولية، وليست مسألة خوف، وإنما التنشئة ـ الاجتماعية والفكرية والأدبية ـ التي ترعرع عليها غالبية جيلي، من الشريحة التي انتمي إليها، الجيل الذي أتى مباشرة بعد الاستقلال، هي التي تلزمني صمت الموقف.. أفضل الموت على أن أعيش ذليلا، وخائنا لنفسي، وبالتالي للوطن.. إنها الجرأة بين شجاعة الأمس ووقاحة اليوم.. تغيرت المفاهيم والأفكار والقناعات، فجرأة اليوم ليست بجرأة جيلي.. جرأة الأمس، عند أهل الضمير،  تعتمد مبدأ خدمة الوطن دون مقابل، وجرأة اليوم هي وقاحة تتطاول على الشرف والدين والوطن بالمقابل.. جيل الأمس الغالبية ضحت من أجل مبدأ وقضية، وجيل اليوم معظمه يعيش على حساب قضايا.. جرأة الأمس ترفض السكوت عن الحق، باعتبار أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ووقاحة اليوم بجنون تحضن إبليس، وتتنكر لكل جميل..
قبل فوات الأوان
 لا يمكن انتقاد الآخر دون انتقاد ذاتي، فأية حركة تصحيح  فيها الذات والموضوع، وغياب هامش الحرية، حرية التعبير والنقد الذاتي الهادف، يعرقل وضع أي مشروع تنموي إعلامي وحضاري على ركائز أخلاقية وعلمية متينة.. فلندعم قيم حرية التعبير والموقف النقدي البناء المسؤول، ويعاقب النفوذ الجشع، قبل أن ينفجر لغم الضغينة، وتأتي محرقة الحقد الأعمى على الأخضر واليابس.. 
                                                       محمد رياضي
                                                       إعلامي
                                                          الدار البيضاء، يونيو 2011

lundi 6 juin 2011

القضيــة العــربية والإعــلام الجماهيري


القضيــة العــربية والإعــلام الجماهيري 

فلسطـين بين نقمة الصليبيـة، وسـادية الصهيـونية، والتخاذل العــربي

                ـ جــذور الجـــريمة
              الإعلام، كعملية تواصلية، عملية قديمة قدم المجتمع الإنساني، بدءا بالإيماءات، الصفير، أصوات المزامير، قرع الطبول، إشارات الدخان ولمعان المرآة وغيرها.. ومع مراحل التقدم الإنساني، اجتماعيا، ذهنيا وثقافيا، تنوعت الأساليب وتطورت وسائله إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه التكنولوجية الإعلامية في القرن العشرين. فأصبح من الصعب على الإنسان المعاصر العيش بدونها. يلاحقه، أينما رحل وارتحل، سيل من المعلومات والأخبار،  عبر الكلمة،  الصوت والصورة، وبلغات مختلفة، تحمل رؤى وتصورات، ذات أبعاد وأهداف معينة، وتعمل السياسة على توفير المناخ المحلي، الإقليمي والدولي الذي يقبل بتلك الرؤى والتصورات. فأصبحت وسائل الإعلام أداة رئيسية للاتصال والإخبار والإعلام، والتأثير وخلق الرأي العام المرغوب فيه.. والإعلام الفاعل، بغض النظر هل يخبر الحقيقة أم يضللها، يبقى هو الإعلام الذي يستقرأ، عن دراسة علمية ميدانية، طبيعة سيكولوجية الجمهور / المجتمع المستهدَف، لكي يستطيع التخلص من العوائق، ويحدد الكيفية النافدة لتمرير الخطاب، بالمكتوب، بالمسموع أو بالمرئي، أو بها جميعا. ويخرق حدود العقل والعاطفة،  لإيصالها إلى عمق المخاطب. وما يهمنا هنا، هو المرئي الجماهيري، التلفزيوني والسينمائي،  لأنه يعتمد على البصر والسمع، لغة الصورة ولغة الكلمة، للتأثير والإقناع، وتبليغ الرسالة، كانت سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية وغيرها، دون تجاهل حقيقة قيادة الإرادة السياسية للخطابات الإعلامية، (م.10، ص 366) مع احترام أحقية المواطن في المعرفة، مهما كانت إيديولوجية النظام وتوجهاته السياسية، كما تضمنته المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966:"لكل فرد الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار، وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، دونما اعتبار للحدود، سواء على الشكل المكتوب أو في قوالب فنية، أو بأية وسيلة أخرى "، فاستغفال المواطن والاستهتار به، وإخفاء عنه الحقائق،   يؤدي إلى انسحاب الثقة من الإعلام النظامي، فتزدهر الإشاعة والدعاية، ويقع المواطن فريسة رياح وتيارات متضاربة وهدامة لكل ما هو وطني وقومي..     
               وعند جرده لتاريخ القضية العربية يلاحظ الباحث، المدقق في التفاصيل التاريخية، التي أرختها بعض الكتب، التي لم تلق دعاية إعلامية خاصة، أن القضية الفلسطينية مرت بمراحل متلاحقة، حددت معالم تطور المقاومة العربية الفلسطينية، في مواجهاتها وتصديها للخطر الداهم،  الذي تمثله الصهيونية، منذ بوادرها الأولى، كفكرة، ثم مشروعا استعماريا، احتضنته الإمبريالية الاستعمارية العنصرية، وأقر أبعاده أول مؤتمر صهيوني، انعقد في مدينة بازل السويسرية في 27 آب 1897، بفضل اليهودي تيودور هر تزل،  بغية جمع شمل صهاينة أوروبا، وتنظيم حركتهم الصهيونية، والعمل على تنفيذ مخططاتها الاستعمارية،  انطلقت بالهجرات المنظمة إلى فلسطين، قوبلت طلائعها الأولى بمقاومة عربية فلسطينية عفوية تلقائية،  ثم منظمة للدفاع عن الحقوق الشرعية، (م.1 ) يغذيها روح الانتماء للأرض والعروبة، والإيمان الفطري بالقضية وقدسية أرض الرسالات السماوية،  ضحية عبثية الصهيونية. (م.8 ص35/39)
             بالإضافة إلى مكانتها الدينية، تحظى فلسطين بموقع استراتيجي اقتصادي وعسكري- جعلها هدف أطماع الغزاة على مر العصور إلى أن حل وباء الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، فكانت بداية الصراع العربي الصهيوني الذي حدد أبعاده نجيب عازوري في كتابه "يقظة الأمة العربية" 1905 ـ مع تحفظي على هذه اليقظة ـ " هناك حادثان هامان من طبيعة واحدة، ولكنهما متناقضان، وهما يقظة الأمة العربية، والجهد اليهودي الخفي  لإنشاء ملك إسرائيل القديم من جديد، وعلى مقياس أوسع. إن مصير هاتين الحركتين هو الصراع المستمر إلى أن تغلب إحداها الأخرى، ومصير العالم كله منوط بالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين الشعبين اللذين يمثلان مبدأين متعارضين". وفي خضم التنافس الاستعماري آنذاك، اختلقت الصهيونية نفسها وشاركت في اللعبة، فآوتها الإمبريالية البريطانية الاستعمارية، وقدمت لها الدعم المادي والمعنوي، الظاهر والخفي، لتضحى حركة عنصرية خطيرة،  وزكت وجودها العدواني في قلب الأمة العربية بوعد بلفور اليهودي ـ البريطاني الغريب، لتحول دون قيام دولة عربية موحدة،  تهدد مصالح بريطانيا الاستراتيجية في المنطقة، بعد تفتيت الإمبراطورية العثمانية.
وأمام دعم الاستعمار الأوروبي غير المحدود للكيان الصهيوني الظالم، وتهافت مشايخ العرب، في بداية الغزو، على أطماع شخصية، أسرتها الإمبريالية الاستعمارية بوعود كاذبة،  تقوى عضد الحركة الصهيونية، وتوسع نفوذها على مختلف وسائل الإعلام العالمية، مستخدمة إياها لترويج الإشاعة والدعاية والتضليل، لصناعة الرأي العام المؤيد للخط الصهيوني، انجرف معه بعض القادة العرب اللاحقون، واندفعوا إلى مبادرات استسلامية لتسوية الصراع، ووجهت بمكر صهيوني مناهض لأي سلام، فتحولت على إثره المقاومة من آلية ثورية تدافع عن الحق والشرعية إلى سلطة وطنية تسعى لإقامة كيان دولة. ولادة صعبة في ظروف قاسية، نتيجة ضغوط انتهازية الأنظمة العربية المتنافرة من جهة، والانحياز الصليبي من جهة ثانية، ونفوذ الصهيونية العالمية من جهة ثالثة... مع تطور الأحداث، أصبح من نادوا ب"رمي اليهود إلى البحر"، ينادون، في تصريحاتهم الصحفية، بالتسوية الذليلة بين "دولة" إسرائيل ودولة فلسطين، وهو اعتراف علني بسيادة العدو على فلسطين، وتجسيد لأمنية حكماء صهيون في تكوين الدولة الإسرائيلية. وتستمر الصهيونية في تثبيت كيانها الغير الشرعي، بالتخويف والنهب والتقتيل للاستيلاء على الحقوق الفلسطينية، واستئصال كل المقومات العربية والإسلامية،  في ضوء اعتبارات وتبريرات سياسية ودولية، يصنعها إعلام "النظام الدولي الجديد"، على عكس موقفه العدواني من الطالبان عند تدميرهم لتماثيل بوذا، ورضاه المبارك لإزاحة تمثال لينين بعد هدم جدار برلين.. فتبنت إسرائيل الإرهاب الرسمي المبرر لقيام الدولة الصهيونية على أنقاض هياكل أهل الأرض الشرعيين، وأنفاس الجماهير العربية الأصيلة المعتقلة في أوطانها. كأن نبوءة هرتزل، التي أشار إليها في مذكراته، في أعقاب مؤتمر بازل، تحققت " لو أردت أن أختصر مؤتمر بازل في كلمة واحدة وهذا ما لن أفعله صراحة لقلت: في بازل أسست الدولة الصهيونية. ولو أعلنت ذلك اليوم لقابلني العالم بالسخرية والتهكم ولكن بعد خمس سنوات على وجه الاحتمال، وبعد خمسين سنة على وجه التأكيد سيرى هذه الدولة جميع الناس". (م1. ص36 )
هل تحققت فعلا نبوءة هر تزل؟  أيرجع ذلك لضعف  وتخـاذل الأنظمة العربية، أم لفقدان استراتيجية سياسية إعلامية جريئة مضادة ؟ أم للامبالاة الشعب العربي؟
                                 ـ فــزاعة صليبيـة في فلسطــين العــربية
             لتنفيذ مخططاتها الاستعمارية،(م.2 ) سعت الإمبريالية الغربية إلى إنشاء دولة يهودية بمعايير صهيونية،  وأقحمتها في الجسم العربي كفيروس غريب، لم تستطع الأنظمة العربية، لحد الساعة، استئصاله والتخلص منه..  عند جثومها على أرض فلسطين، وإيمانا بأن وجودها غير سليم لأنه قائم على أرض الغير بمساعدة الإمبريالية الاستعمارية البريطانية، ولتثبيت ذاتها، ككيان طبيعي ذو سيادة تاريخية وقانونية، تقيدت إسرائيل بأصول عمل الحركة الصهيونية العالمية، وأصبحت "عقيدة سياسية"،(م.11 ص23) جاعلة من كلمات زعمائها، شعارات حماسية تعبوية، لتحقيق برنامجها القومي، " إن رغبتنا الوحيدة هي خلق الظروف الدولية التي ستقوي من أمننا القومي.." بن غوريون ( م7. ص10). وعملت على تنفيذها بالقوة والدم،  جعلتها أهداف سياستها، التي تحرك قنوات أجهزتها المحلية والعالمية، تسبقها وتواكبها وتليها حملات إعلامية ممنهجة،  تغزوا عقول العالم، وتركز فيها الرأي العام الذي تبتغيه.  وتسعى الصهيونية،  بإرهابها البربري المتواصل إلى يومنا هذا، إلى استكمال مقومات الدولة الإسرائيلية. والتاريخ، على مر حكوماتها المتتالية، من بن غور يون إلى أرييل شارون،  يوثق همجية الصهيونية في قصف وقتل الأبرياء العزل، من "الشيخ إلى الرضيع"، وأيضا تجاوزاتها الخارقة للمواثيق الدولية ومقررات الأمم المتحدة،  التي تسيطر عليه حامية الإرهاب الصهيوني، وضامنة أمن إسرائيل على نطاق أوسع من فلسطين وحدها، لتحقيق مملكة إسرائيل الخرافية من جهة، والطغيان الأمريكي في المنطقة من جهة أخرى، بعد اندحار "الشيطان الأحمر"، وتنامي المد الأصولي بعد الثورة الإيرانية في أواخر السبعينات من القرن الماضي.  فعززت الصهيونية قدراتها العسكرية والنووية،  وحطمت أرقاما قياسية في المجازر الجماعية واغتيال القيادات والمبدعين.  وأصبحت إسرائيل ملاذا وملجأ لمجرمي الحرب، ولا محاسب!  وأكثر من ذلك التهديدات السافرة، والإرهاب الرسمي للقبول بأمر الواقع، كما جاء في سيل من الخطابات المباشرة لصهاينة الحكومات المتعاقبة إلى عرفات وفصائل المقاومة الفلسطينية ودول المواجهة،  ومنهم إلى القادة العرب! والتي تتمحور حول: "علينا أن نعمل على طرد العرب الذين لا أملاك لهم إلى خارج الحدود، بجذبهم إلى أعمال نوجدها لهم في الأقطار المجاورة، بعد أن نمنعهم من العمل في بلادنا "(تيودور هرتزل 1895)، "لا وجود لصهيونية،  ولا لاستيطان ولا لدولة يهودية، بدون طرد العرب وانتزاع أراضيهم".( م11. ص61 )، "إن إسرائيل قوية بما فيه الكفاية لمواجهة جميع الدول العربية في آن معا"  مردخاي تسيبوري، (م.9 ص97 )،  "لن يكون هناك سلام في الشرق الأوسط بدون إسرائيل" ( جولدا مايير، م7.ص12)  وغيرها...
               أتت الغطرسة الصهيونية بفضل إيمان الزعامات الإسرائيلية بتعاليم تيودور هر تزل، واستراتيجيات سياستها الخارجية " المشبعة بالقيم والمبادئ الثابتة للحركة الصهيونية، التي تشكل الأساس النظري والتاريخي والمادي لإسرائيل"(م7. ص9)، وبفعل حملات إعلامية ممنهجة لطمس وتحريف الحقائق والتعجيل بتجسيد التغيير، وتهيئ الأرضية المواتية لتبرير ما قامت وتقوم به آلياتها العسكرية القمعية الإرهابية في حق عرب فلسطين، وفي حق المعارضة اليهودية ـ المتشبثة بالتقاليد الروحية لأنبياء إسرائيل ـ حيث عملت المنظمة الصهيونية العالمية على مطاردتهم والقضاء عليهم. والتاريخ يفضح لا أخلاقيات الصهيونية، وتلاعبها بالحقائق التاريخية،  وإهدار دماء إخوانها في الملة والدين. يهود أبرياء، ذنبهم أنهم أوفياء لدينهم وعقيدتهم، ومعارضين للأيديولوجية الصهيونية ونزعتها العنصرية،  فرفضوا الهجرة إلى فلسطين، ولم تتردد الصهيونية في تقديمهم أكباش فداء،  لتنال تعاطف الرأي العام الدولي، يقول بن غوريون: "إن مهمة الصهيونية لا تتعلق بإنقاذ بقايا إسرائيل الموجودة في أوربا، ولكن ترتبط بإنقاذ أرض إسرائيل من أجل الشعب اليهودي"(م11. ص78). الشعب المختار وفقا لمتطلبات وأهداف المشروع الصهيوني. فافتعلت أرقاما وضخمتها، وروجت، عبر وسائل إمبراطوريتها الإعلامية،  خرافات وقصاصات لصالح توجهها العنصري الاستعماري، صدقتها العقلية الضيقة من العرب والعجم، ومع مرور الزمن، فندتها أبحاث، ودراسات، وشهادات من عاشوا حقيقة ما وقع. (م11، فصل الشهادات")
وعند تصفح تاريخ الحكومات الإسرائيلية، ينتصب على رأس المناصب الحساسة ـ الدفاع، الخارجية، جهاز المخابرات وأهمها رئاسة الوزراء ـ الأكثر شيطانية، وعدوانية، وتطرفا، وإجراما. فوصول شارون،  ولا من أتى قبله،  لم يكن محض صدفة، بل إفراز طبيعي لتركيبية المجتمع الصهيوني، الذي تتحكم فيه المؤسسة العسكرية الشاذة، الناشئة وسط الإرهاب،  المشحون بنقمة العنصريات الأوروبية الصليبية وبروتوكولات حكماء صهيون.  وطبيعي أن تفرز صناديق الاقتراع في كل الانتخابات الإسرائيلية من يقود حملتهم العدوانية المنظمة، السياسية، العسكرية والإعلامية، ولذلك فمجيء شارون، سفاح مخيمي "صابرا وشاتيلا" في بيروت عام 1982 وغيرها من المجازر السوداء،  إلى رأس الحكومة الصهيونية بأغلبية 62% من أصوات الناخبين هي نتيجة متوقعة، وبعده لن يأتي إلا الأشرس منه، ويلعب الإعلام   دورا بارزا في تأليب الرأي العام على وصوله إلى قمة الهرم الإسرائيلي!! إنها الصورة التي يجب أن تستوعبها السياسات العربية، التي صدعتها معاهدة كامب ديفيد،  وانهارت بعد حرب الخليج الثانية،  ورضخت، أمام فاعلية تحالف الإستراتيجيات السياسية والإعلامية الصهيونية ـ الصليبية.
             وتمارس الصهيونية العالمية نشاطها الدعائي، عبر إمبراطورية إعلامية متكاملة، بصحفها، إذاعاتها وقنواتها الخاصة، وكلها تؤمن بشعار واحد "إسرائيل شعب الله المختار"، وتعمل على تلميع صورة إسرائيل في المحافل الدولية، وتبرير إرهابها، وتأجيج لهيب النزاعات الحدودية العربية، والتصدي إلى أية صحوة   ومشروع وحدوي نهضوي عربي، (جمال عبد الناصر في الخمسينات .. وصدام حسين في التسعينات من القرن الماضي). وبجميع وسائل الإغراء والمتعة تتسلل إلى داخل البيت العربي، وتنخر في أعماق الشخصية العربية، لتحبطها وتضعف معنوياتها،  من خلال قنواتها الدعائية الصهيونية الخاصة والخاضعة لها.  وتساندها في ذلك الإمبريالية الثقافية الغربية بممارسة ألوانا من الغزو الفكري والإحباط النفسي ضد العرب،  عبر وسائلها الإعلامية المختلفة.  بالإضافة إلى امتلاك الصهيونية العالمية لأهم مراكز الإنتاج السينمائي في هوليود،  والتي عمدت، على مدى تاريخ تواجدها، على تشخيص معاناة اليهودي المنبوذ عبر العصور،  وقدرته على تحدي الأعداء والقدر. أسطورة الرجل الذي لا يقهر، يقتل شعبا كاملا ولا يقتل، وغيرها من الخرافات. إعلام جماهيري له توجهات سياسية   معادية للعرب والمسلمين، تستلب هويتهم وتدمر شخصيتهم العربية والإسلامية. كما يجب أن لا تُهمل مواقع الانترنيت، فهي جبهة أخرى تستغل للدعاية وتمييع القيم المحترمة، باسم الحرية والميوعة الجنسية، وهذه إحدى إشكاليات التربية العربية المعقدة! (عن تقرير 2001 لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية حول التنمية البشرية، ارتفع عدد المستعملين لشبكة الانترنيت في العالم ما بين 1998 و2000 من 2.4 % من السكان إلى 6.7 %. أنظر مقال ذ محمد العربي المساري، تحت عنوان "مجتمع الإعلام والمعرفة.. اليوم أو أبدا. نشر في جريدة العلم 23 يوليوز 2001 )
فشرذمة إسرائيل الإرهابية، هي وليدة سياسة إمبريالية استعمارية عنصرية مغتصِبة، مفعمة بروح الانتقام الصليبي.  ولإبعاد الخطر عن أوروبا، هيأت الصهيونية البريطانية أمريكا، لتحمي الشعب المفتعَل في فلسطين.  وبما أن أمريكا الرسمية، تاريخيا، شبيهة بإسرائيل، في سيطرتها على أرض السكان الأصليين، المعروفين بالهنود الحمر، بإبادتهم، وتشويه صورتهم في جل أفلام رعاة البقر، لتبرير إرهابها الوحشي عليهم،  من البديهي، أن تكون مهيأة نفسيا لاحتضان اللقيطة إسرائيل بكل إرهابها وإجرامها المنظم. وغرسها في الجسد العربي لم يتحقق بإرهاب فيالق الهاجانا،  شتيرن، الأرغون وغيرها،   أو بقوة الحروب العسكرية فقط،  بل بضعف العقلية القيادية العربية وطمعها الشخصي، وبالتحايل الإمبريالي الاستعماري، واستراتيجياته الإعلامية المتكاملة الفاعلة!  ليظهر جليا أنها حرب صليبية عرقية حضارية، حرب على جبهات عدة، أشرسها الجبهة الإعلامية،  وعلى العرب أن يستعدوا لها. "و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم"، ( سورة الأنفال) ليس فقط بالعتاد والسلاح الحربي، بل أيضا بالسلاح الإعلامي؛  أخطر الأسلحة الفتاكة، أخطر من القنبلة الذرية التي أسقطها الإرهاب الأمريكي على هيروشيما ونكازاكي اليابانيتين،  في منتصف الأربعينات من القرن الماضي. إرهاب دولة وذنب تاريخي لا يغتفر.. 
               وإلى يومنا هذا، تواصل الصهيونية تبرير إرهابها الوحشي، في حق أبطال الانتفاضة والنشطاء الفلسطينيين وقيادات ورموز السلطة الوطنية، ومحاصرة الرئيس ياسر عرفات، ومن أجل بلوغ أهدافها العنصرية تتضامن الصهيونية مع إبليس،  في تزوير التقارير،  وإشاعة الأكاذيب، وسلب التأييد الدولي، (نموذج ما وقع في المؤتمر العالمي لمكافحة العنصرية في دوربان،  بجنوب أفريقيا، في منتصف عام 2001، الذي  أدانت خلاله أكثر من ثلاثة آلاف منظمة غير حكومية إسرائيل كدولة عنصرية، تمارس المجازر الجماعية،  وجرائم الحرب، والتطهير العرقي). تضليلها الإعلامي يجعل المقاومة المشروعة إرهابا، والعمل الإرهابي بطولة، فتضفي الطابع البطولي على جرائم الاغتيال التي تقوم بها يوميا ذبابات،  طائرات ومروحيات،  مسعورة بالجنون الشاروني،  للسيطرة على الانتفاضة الشعبية وضمان أمن إسرائيل، وتنعت العمليات الاستشهادية لشهداء الأقصى بالانتحارية والإرهابية.  إعلام يقوم على ترويج المعلومات الخاطئة، والمفاهيم التي تخدم مصالح الصهيونية العنصرية،  وتسير في خط موقف النظام الدولي الجديد    المشروط ب"من ليس معنا فهو مع الإرهاب لترسيخها في ذهنية الرأي العام، على أنها حقيقة ثابتة. وفي نفس الوقت،  وبديمقراطية الغرب الغريبة،  تقمع الصهيونية، بكل أشكال الإرهاب، الإعلام المضاد، المحلي والدولي، للقيام بمهامه الصحفية والإعلامية في تغطية حقائق الأحداث والوقائع بالكلمة ولغة الصورة،   متجاهلة المعاهدات الدولية التي تمنح الصحفيين الحماية والحرية للقيام بمهامهم الصحفية بتغطية الأحداث والوقائع، التي أكدتها المادة 79 من البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب 1949:  "يعد الصحفيون الذين يباشرون مهمات مهنية خطرة في مناطق المنازعات المسلحة أشخاصا مدنيين ويجب حمايتهم بهذه الصفة بمقتضى أحكام الاتفاقيات وهذا البروتوكول شريطة ألا يقوموا بأي عمل يسيء إلى وضعهم كأشخاص مدنيين". 
              وقد برز مصطلح الإعلام في منتصف الخمسينات بالولايات المتحدة الأمريكية،  في حقبة تزامنت وبداية عهد جديد لأغلبية الأوطان العربية، التي أحرزت استقلالاتها المشروطة. وانشغل كل نظام   بتثبيت الذات النظامية في إطار رؤية فردية ضيقة، في السياسة، الاقتصاد،  التعليم،  وفي الإعلام المحدود الإمكانيات والأبعاد، والمنقسم بين إعلام قطري، محدود الأبعاد الوطنية،   وآخر خطابي قومي متضارب الأهداف،  تمخضا عن التبعية لأحد المعسكرين الشرقي الاشتراكي أو الغربي الرأسمالي، زمن الحرب الباردة. فتراكمت المشاكل العالقة، وتفاقم التخلف، أمام ازدياد سرعة الثورة التكنولوجية في جميع المجالات، أهمها آليات الإعلام في الدول المصنعة، التي يقول عنها  الأستاذ محيي الدين: " إن التقدم الرهيب في المجال الإعلامي جعل الدولة الإعلامية هي الطور الأخير للدولة في مراحل تطورها المتعددة، من الدولة السياسية إلى الدولة الاقتصادية إلى الدولة الثورية ، إلى أن صار العالم اليوم يتجه إلى مرحلة الدولة الفكرية الإعلامية، لأن الإعلام اليوم هو المروج والصانع والممكن لكل سمات وأبعاد الدولة بمفهوماتها وأطوارها التاريخية "(م.3 ص18 )، فاتسعت الهوة بين واقع "الدولة الإعلامية المتقدمة" وواقع عالم شاسع يفتقد للتفكير السياسي الاستراتيجي العلمي التنموي. غني بثرواته، المادية والبشرية، وفقير في وعيه السياسي بأهمية الإعلام، الذي طورته الدول المصنعة واستخدمته لتحقيق  مصالحها الإستراتيجية، على حساب مستعمراتها القديمة/الحديثة، بالخصوص العربية، بفرض ضغوطات قهرية، تعمق الفقر، وتكرس الأمية وتذل العرب.
              لقد باتت الصناعة الإعلامية الحديثة ترتبط بكل العلوم والمجالات الحياتية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية،  وأيضا النفسية واللغوية والإستراتيجية..  لترويج المواد والمنتجات الاستهلاكية،  ونشر الأفكار والدعاية الإيديولوجية، والتشجيع على تداولها. والإنسان، بغض النظر عن جنسيته، ملته،  ثقافته..، على استعداد لاستقبال كل المعلومات، التي يمكن أن تُؤثر في سلوكياته وطباعه، وتُغير اختياراته ومواقفه.  فبالبحث العلمي تقدمت وسائل الإعلام، وغزت الفضاء، حيت وضعت الأقمار الاصطناعية، التي "ترصد بالتدقيق حركات الأشخاص و الأشياء." (م.10 ص375 ) إنه عصر الاتصال والتأثير الإعلامي، بإيجابياته وسلبياته! فهو يحمل الوقاية والعلاج، كما يؤكد الأستاذ منذر الموصلي:"… يكون الإعلام وقائيا إذا كانت مادته تجابه مخاطر متوقعة أو تتصدى لأخطار مقبلة، فهو إذن يسبق الأحداث ويضع الخطط لمجابهتها وتهيئة النفوس لمواجهتها فيعزز ثقة الشعب بنفسه وبقدرته وإمكانياته، أي أنه يصنع العلاج للوقاية من المرض. ويكون الإعلام علاجيا عندما يتدخل ليلعب دوره بعد وقوع المخاطر والكوارث أو عندما يواجه حالة عامة من انعدام الثقة وتبلبل الخواطر وتوجس النفوس إما بتأثير دعايات معادية أو بعد نكبة حربية أو اقتصادية أو طبيعية أو بسبب وباء صحي فانعكس ذلك على الرأي العام وشكل ردود فعل سيئة، فتسرع الخطط الإعلامية لتطويق هذه الحالات أو بعضها ببرامج و أفكار وتوجيهات واعية تزيل آثارها وتقضي على نتائجها". (9م. ص158)! سلاح ذو حدين!!  يمكن أن يداهم من يسيء استعماله،  فيفقده هويته، ويسهل استهجانه!
                  ـ أيـن السلطـة العـربية من الإعــلام والقضيـة الفلسطينــية !!؟
              أتت الأنظمة العربية الحديثة، من رحم الثورات التحررية العربية، العفوية والمنظمة، المناهضة للاستبداد والذل والاستغلال الاستعماري، وخيانة بعض قادة الأنظمة القديمة التي استسلمت لمطامعها. وتلقاء نفسها العفوية، لبت الجماهير العربية نداء أوطانها، وهاج غيظها، وصنعت زعماءها الثوريين، وصارت وراءهم، من أجل تحرير كيانها من بطش المستعمر الغاشم. وكلها أمل في مجتمع عربي/ مسلم يساير التحولات العالمية، تسوده ما اغتصبه منها المستعمر الأوروبي: الكرامة، المساواة والحرية..
             بعد أخذهم زمام الأمور،  وتمكنهم من رقاب صانعيهم، استكان غالبية الزعماء الجدد لأطماعهم الفردية النظامية، واستسلموا لما ناهضوا وحاربوا عليه الأنظمة التقليدية، وأطاحوا العروش الخائنة. اعتبروا، حينها،  التبعية للمستعمر خيانة، ووراثية النظام غير ديمقراطية. فقامت أنظمة جديدة  طالقة العنان لكل المصطلحات التحريرية، الديمقراطية والثورية، منقولة حرفيا عن الفكر التقدمي  الغربي..
           ومع مرور الوقت، أثبت الواقع المعاش أنها قيادات متسلطة، أوقفت مسيرة تطور الإنسان العربي، وحاصرته في قطره الضيق، وقيدته بأغلال الجهل والخوف والترهيب، كفلسفة جديدة تحمل إيديولوجية الانتظارية والإتكالية. ومن تمرد، وحاول تكسير القيود كان مصيره المضايقة،  المطاردة، السجن أو الاغتيال! ففي الوحدة، قوة تسحق قانون التبعية والرضوخ. أدركها المستعمر، إبان احتلاله للأقطار العربية، فنهج، حينها، سياسة فرق تسد، بالقوة، بالأكذوبة المنظمة، الوعود الفارغة والإغراءات العابرة. وبعد الإستقلالات المشروطة، وحشر دويلات جديدة، لتظل فتيل توتر حدودي دائم،(م.6) سارت الأنظمة على نهجه الاستغلالي.. رفضت العقلية الطاغية، المدنية والعسكرية منها، رهينة سياسات مصالح استعمارية، حرية التفكير والرأي الآخر، فاعتقلت الديمقراطية، وأقبرت أي حركة نهضوية، وألبستها ثوب الفوضى والخيانة! وألّفت سيمفونيات جديدة تمجد حركاتها الاستعراضية المناسباتية.  ومن القادة القلائل الذين سارعوا إلى وضع حد للتبعية في الخمسينات، (م.10 ص23/24) القائد العربي جمال عبد الناصر، الذي تآمرت عليه رجعية مشايخ الخليج، ومناورات الاستعمار، بريطانيا فرنسا، وإسرائيل.  وتناصروا عليه، ليسقطوا عنه زعامة الدول العربية. وبسبب سذاجة بعض المشايخ ومرض العظمة الوهمية لبعض القادة، خسر العرب حروبهم مع إسرائيل، بما فيها حرب أكتوبر 73، التي لم تمح عار ومهانة وذل النكبات السابقة. توقفت فجأة دون إتمام مهمتها الحربية،   وتجاوز الإعلام العربي، المرئي، الخوض التحليلي في السؤال المحوري: لماذا توقفت الحرب؟   سيناريو صهيوني ـ أمريكي أوهم العرب بالانتصار، لتستفرد "إسرامريكا" بالرئيس أنور السادات ـ فإسرائيل تخشى التعامل مع الدول العربية بشكل عام، تفضل المفاوضات الثنائية ـ وتستدرجه إلى توقيع معاهدة كامب ديفيد المعلومة في 1978،  التي قادت العرب وعرفات إلى تسويات استسلامية، قوبلت بلا آت إسرائيلية ساخرة. ومع تهميش دور جامعة الدول العربية، وتوالي نكسات العرب، تنكر بعض المشايخ لقوميتهم، وللقضية العربية،  التي ناضل الشعب العربي من أجلها إلى درجة القداسة. ومن المؤسف، أن يتباهى بعض العرب،  في تصريحاتهم الصحفية وخطبهم السياسية، بحماية القوى الخارجية لضمان مصيرهم، (م.6 ص287/288 ) وربما لدرء خطر انتفاضة شعبية حرة شاملة، تقلب موازين القوى، كما حصل في إيران، عند سقوط عرش الشاهنشاه الفولاذي.  قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين".(سورة المائدة) تباينت المواقف، وتضاربت الأفعال والتصريحات العربية الرسمية، المبنية على أنساق إيديولوجية فردية، عاجزة عن الدفاع عن طموحات جماهيرها. كل نظام يتكلم عن حقوق الإنسان، ولا اعتبار للإنسان العربي في وطنه (محنة المعتقلين السياسيين والمفكرين والحقوقيين..)، وفي غربته، عند الغرب (ضحايا العنصرية)،  وعند العرب (إبعاد العمال العرب وتشريد عائلاتهم، بالقوة لموقف سياسي لا يدا لهم فيه، لم يستثن حتى الفلسطينيون. (نموذج ليبيا القذافي في شتنبر 1995)
             أنجبت هذه الظرفية ثقافات مسايرة لخواطر وأحلام القيادات الحديدية التي أنتجتها، فأفرزت نوعية خاصة من الإعلام،  مثقفوه من الصنف الذي أشار إليه الأستاذ هشام شرابي: "فأخذ مثقفونا يرسمون لنا صور تاريخنا و حضارتنا ومجتمعنا في شكل تبريري، في وجه سيطرة الغرب ونفوذه، وأصبح هدف المعرفة درء الخطر عن الذات، بدلا من معرفة الذات و تفهمها. وبذلك تحجر الفكر النقدي منذ البداية، وبدلا من أن يأخذ خط التفهم والتحليل أخذ خط التفسير والتبرير. ومن هنا تميز الفكر العربي المعاصر بخروجه عن خط المعرفة العلمية "معرفة الذات والنقد الذاتي" واندفاعه في متاهات تجريدية، وتهربه من مجابهة الواقع وكشفه."(م5. ص66 ) فاحتكرت الأنظمة الإعلام المرئي، لدرجة أن بعض الحكومات زاوجت بين وزارتي الداخلية والإعلام، لتضخيم أنشطتها وتمرير خطاباتها الرسمية، وتبرير مواقفها السياسية القمعية على مستوى القطري، والتحريضية على المستوى العربي، والانهزامية على المستوى الدولي، والاستسلامية في صراعها مع العدو الصهيوني،  معتمدة على التمويه بمختلف الطرق والوسائل ".. وبواسطة التمويه تتمكن الثقافة الاجتماعية المهيمنة من أن تفرض نظرتها وقيمها وأهدافها والتمويه هو الذي يصنع الوعي الخاطئ الذي يجعلنا نرى العالم من خلال نظرات تصنعها ثقافتنا الاجتماعية والواقع المسيطر فيها، فندعم القوى التي تسيطر علينا وتستغلنا ونرفض بملء إرادتنا سبيل التحرير والانعثاق." (م5. ص67 )
               من خلال السياق العام لتركيبية وذهنية السياسات العربية، يتضح أنها سياسات تعجيزية،  لم تعمل على تطوير بنية مؤسساتية،  ذات أجهزة فعالة،  لها ضغط سياسي قوي في تغيير القرارات المحلية، العربية والدولية. فبعد أكثر من أربعين سنة على بروز مصطلح الإعلام، يفاجئ الشعب العربي بأنه يفتقد إلى منهجية التواصل والتعامل مع الظروف المحيطة به،  وأكدت التجربة الإعلامية الميدانية، أن الإعلام العربي، المرئي، لا يجرؤ على كشف الحقائق، يختفي وراء الكلمات والشعارات الوطنية، القومية والفلسطينية، فتختلف القراءات والتصورات والطروحات. إعلام يفتقد إلى استراتيجيات سياسية في مواجهة تحديات تحالف سياسي/ إعلامي، أنجلو ـ أمريكي ـ صهيوني، له قاعدة خاصة "لا بأس بالغدر والكذب والوقيعة إذا كانت هي طريق النجاح" (م.8 ص16). إعلام متمرس على المراوغة، والخداع والتحايل، والتلاعب بالكلمات للسطو على الحقيقة وكسب الأحداث. إعلام يكرس مواقفهم، ويبرر إرهابهم، ويفسر طباعهم العدوانية الهمجية، بتحاليل دقيقة مفصلة، ومتحايلة على الشرعية والحقيقة التاريخية. تشكك المرء، الضعيف المهزوز، في قيمه وحقوقه وقضاياه المصيرية. ومع توالي السنين، يتعنت الصهاينة، حكومة، جنودا ومستوطنين،  في إرهابهم الشنيع في حق الشعب العربي في فلسطين، مستهترين بكل القيم والمواثيق الدولية، والتعاليم السماوية، وإصرارهم على تهويد "الأرض المباركة"، و"القدس الشريف"، الذي أقسمنا أن نصلي فيه،  وأقسموا أن يحرقوه، ويهودوه، ويقصفون بالرصاص كل مسلم يدخله! ( نموذج إحراق المسجد الأقصى في 1969، ومذبحة الحرم الإبراهيمي التي نفذها الإرهابي باروخ غولدشتاين فجر يوم 1994.2.25.)  وتواصل تخطيطاتها السرية لإقامة حفريات واسعة تحت حائط البراق الشريف، كشفت عنها شبكة المعلومات العربية محيط   "بدأ الصهاينة تنفيذ خطة جديدة تهدف إلى هدم أساسات الحرم القدسي الشريف. فقد أقرت البلدية الإسرائلية في القدس الغربية مخططات لإقامة حفريات واسعة تحت حائط البراق الشريف، بشكل يهدد أساسات الحرم القدسي، والسعي إلى إنشاء جسر يؤدي مباشرة إلى المسجد الأقصى لتمكين اليهود مستقبلا من الوصول إليه دون تمكين المسلمين من منعهم من ذلك. وذكرت صحيفة معاريف الإسرائيلية الصادرة اليوم أن البلدية الإسرائيلية وضعت مخططات لحفر باحة حائط البراق على عمق ستة أمتار بهدف زيادة ارتفاع الحائط، وجعله ملفتا للنظر بشكل أكبر ، حسب المزاعم الأولية. وستبلغ تكلفة تنفيذ المخططات حوالي 25مليون دولار. وبموجب المخطط سيتم حفر باحة حائط البراق إلى عمق ستة أمتار، بحيث يؤدي هذا العمل إلى زيادة ارتفاع الحائط بصورة تلقائية. كما يشمل إقامة جسر يربط بين محيط حائط البراق وباحة الحرم القدسي. أما باحة حائط البراق فسيتم توسيعها جنوبا، بحيث يشمل التوسيع التلة المجاورة. وزعم وزير السياحة اللإسرائيلي المتطرف رحفعام زئيفي إن الحائط هو الأثر المتبقى من (الهيكل المزعوم)، وهو أهم الأماكن قدسية لدى اليهود ، ولذلك يتوجب توسيع باحة حائط البراق لتتسع لأكبر عدد من المصلين اليهود ". وفي المقابل، تقف حكومات الأنظمة العربية موقفا طاغيا وصارما من حق الإنسان العربي في إعلام ملتزم بالقضية،  واتخاذ مواقفه المدنية، الفردية والجماعية، السياسية، الاجتماعية، الفكرية، النضالية والتضامنية..  ليدرك المرء، العربي وغيره،  أن لكل نظام رؤية خاصة من القضية، تنبني على موقف انتهازي. وانطلاقا منه يتعامل مع القضية الفلسطينية. فتعددت المواقف والرؤى بتعدد الدول والتكتلات العربية المتنافرة، بالإضافة إلى مواقف الفصائل الفلسطينية المتناحرة من حين لآخر. فتعمل ثقافاتها الإعلامية على إيجاد التبريرات للهزائم المتتالية والتنازلات العربية والفلسطينية المتلاحقة.. فاستغلت إسرائيل غياب إعلام عربي موحد مضاد، لتخترق الفضاء الإعلامي الدولي والعربي، وتصنع الرأي العام الذي يخدم حركتها الصهيونية، ويسيء إلى القضية الفلسطينية وإلى العرب على العموم.. ومن المؤسف أن تتورط أنظمة عربية مع الإمبريالية الاستعمارية، في التشجيع على الخيانة الوطنية وضرب العروبة والدين، بالافتراء على التاريخ بقضايا حركات مصيرية انفصالية خيالية. (نموذج النظام الجزائري في الصحراء المغربية) لتشغل بال الرأي العام عما يجري داخل أقطارها، وبالتالي تمزيق الوحدة حول القضية الأم "فلسطين". إنها عبثية النظام العربي الهش،  المريض بالعويل والشعارات الجوفاء، التي ساعدت الغرب على احتقارهم، فلم يقيموا وزنا لمواقفهم، لكنهم، وباسم ديمقراطيتهم الاستغلالية، يحترمون الفعاليات العربية البارزة، ويحضنونها، في الوقت الذي تفننت السلطات العربية في تهميشها،  وإنتاج ثقافات انتهازية. سياسة غريبة الأطوار، تشجع على استيراد العقول الغربية العادية بأثمان باهضة، وتجبر الأدمغة العربية المتميزة على الهجرة، لتستثمرها الدول المصنعة في بناء وتقدم مجتمعاتها.
               تنبهت الحركة الصهيونية لمدى قدرة الإعلام، بوسائله وأشكاله المتنوعة، عبر تطورها التدريجي، في تنفيذ مخططاتها العنصرية الاستعمارية التوسعية، فوظفته لادعاءاتها المغرضة.  إعلام دعائي، ادعائي، تضليلي، ممنهج وهادف؛ واثق من نفسه، يخاطب العقول الجاهلة للتاريخ الإنساني، أو أنها عنصرية مستغلة، ومستعدة للانقضاض على أية غنيمة.  واستطاعت الصهيونية أن تحقق عدة مكاسب وانتصارات، كرستها ككيان عنصري له سيادة وتاريخ، فتنكرت للوجود القانوني والتاريخي للشعب الشرعي، في الوقت الذي عمدت السياسات العربية، المتعصبة بلاءاتها المشهورة، قبل كامب ديفيد، "لا اعتراف، لا مفاوضات ولا صلح مع إسرائيل"، على إرغام إعلامها المرئي على تفادي أخبار الصهيونية، وإجهاض أي صحوة عربية قومية.   في حين، غالت أخرى في اندفاعها الثوري التحريضي.. هذا التعتيم ولًّد حقدا لدى المواطن العربي تجاه عدو يجهله تماما، إلا الشخصية النمطية التي جسدتها غالبية الأعمال العربية الدرامية التاريخية عن اليهودي.   نفس الفكرة كانت لدى المسيحي الأوروبي أيضا، عن اليهودي المتملق، القبيح الخلق والأخلاق، المتمسكن، الشيطاني في أفعاله، يكن الشر لكل البشر. غير أن المسيحي تعرف على خصمه، ولمس خطره اليهودي في الواقع الحياتي. شخص عاث فسادا في أوروبا، فاضطهدته مجتمعاتها في أوروبا الشرقية، وفرنسا، وألمانيا، وإسبانيا، وغيرها.. كانت له المسيحية النصرانية بالمرصاد،  واستطاعت الصهيونية،  بذكائها الثعلبي، وحيل شيطانية آل صهيون،  أن تتسلل إلى مراكز القرار في الحكومات الأوروبية، بريطانيا على الخصوص، وتستدرج الصليبية إلى الحل المناسب، بإيجاد مأوى لليهود خارج أوروبا. فخططت بريطانيا دخولهم إلى فلسطين، عبر موجات منظمة، انطلقت منذ منتصف القرن التاسع عشر،  وكانت صفقة سياسية ـ تجارية ـ اقتصادية ـ استعمارية مربحة، حيث وزعت الإمبراطورية العثمانية، وحدت من الزحف الألماني، وأضعفت المنافسة الفرنسية في المنطقة.. وبذلك، ضربت عصفورين بحجر واحد، تخلصت من اليهود،  وأعاقت نشوء وحدة عربية. ولا تزال الصليبية الناقمة مستمرة في دعمها اللا محدود لضمان أمن إسرائيل، وتثبيت وجودها كأمر واقع،  بتقوية اقتصادها وتحديث تسليحها، وتبرير إرهابها المنظم..  في حين،  أكدت السياسة العربية الإعلامية سلبيتها وإخفاقها في التوعية وتقوية الروح الوطنية والقومية العربية، في مجابهة التحديات الصهيونية، وإحباط كل المناورات التخريبية للوحدة العربية. وعن طواعية ورطت الجماهير العربية في حروب تافهة، ومتاهات لا نهاية لها. لم يكن إعلاما مستقلا بأفكاره و مواقفه، يخدم المصلحة العامة، ويفضح الخونة، ويكشف نوايا العدو،  ويعرف الغرب والمجتمع الدولي بشكل علمي مقنع بالقضية العربية، ويصنع رأيا عاما مضادا للدعاية الصهيونية. ظاهرة استغلالية غريبة في علاقة السلطة العربية بالمواطن والمجتمع والإعلام، أفرزت واقعا مريضا اتكاليا استسلاميا،(م.5 ص53) فاستطاب بعض القادة ومشايخ العرب مقام القيادة الوهمية، وخططوا للسلطة الوراثية،  ولو ضحوا بالقيم الوطنية، والقومية وفلسطين والقدس الشريف. وعلينا أن لا ننسى أن ما وصلت إليه الصهيونية ليس وليد اللحظة، هو نتيجة جهد كبير وعمل متواصل، تعود إرهاصاته الفكرية قبل مؤتمر بازل الأول، تبلور عنها دستور الصهيونية وميثاقها اليهودي المتمثل في "بروتوكولات حكماء صهيون".(م.8)  ومنذ ذلك الحين، وهم يدبرون مختلف الحيل والمكائد، بدعم أوروبي ـ أمريكي، عبر وسائلهم الإعلامية المتاحة، وتسللوا إلى قلوب الغرب وعقولهم، وأخضعوا الرأي العام الغربي والأمريكي لمشيئة الحركة الصهيونية.  حرب نفسية لها تكتيك واستراتجيات علمية دقيقة،  يشرف عليها شخصيات بارزة في السياسة، علم النفس، علم الاجتماع، علم الجريمة، الدين..  وعلم الإعلام، بإعلاميين محترفين، يعتمدون على بيانات مفصلة، وتقارير تحليلية،  ومعلومات دقيقة من دوائر المخابرات الإسرائيلية الموساد،  وعملائها، ومراكز البحوث الموالية لها. كل ذلك من أجل صناعة الرأي العام الإيجابي لحركتهم العنصرية الاستعمارية. فسهلت عليهم عملية غزو المجتمعات، التي باتت تجوبها العديد من الجمعيات والمنظمات المناهضة للعرب والقضية الفلسطينية، والمؤيدة للإيديولوجية الصهيونية وخطها النازي.  وسيطرت على وسائل الإعلام وكبريات وكالات الأنباء العالمية التي يعتمد العرب على قصاصات أخبارها، حيث تهيمن على 80 % من حجم الأنباء الدولية. بالإضافة إلى هيمنتها على مؤسسات إنتاج الأفلام التلفزيونية والأشرطة السينمائية العالمية، ترسخ مغالطات تاريخية، مستخدمة أحدث التقنيات والمؤثرات الصوتية في الإبهار والإغراء لجلب عواطف وأنظار الرأي العام العربي والدولي.
                 ـ  أيـن  الصوت العربي الغيور؟
             رغم الخناق والظروف المكهربة،  ناضلت الأقلام الصحفية العربية الملتزمة، وواصلت كفاحها القومي، الإشعاعي التنويري، من خلال منابر ثقافية وحزبية تاريخية، لإبراز حقيقة الصهاينة وأبعاد مخططاتهم التوسعية، لكن فاعليتها محدودة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الأمية،  أكسجين الانتهازيين،  هي السائدة في المجتمع العربي! (م.12 ص 60) ومهما كان عدد القراء، تبقى مجرد نخبة قليلة، تضمحل أكثر بتنوع مشارب ثقافاتها ومذاهبها،  وسط الأمية والحرمان المدقع، ثمن تأمين مصالح الغرب ومطامع الأنظمة الموالية له.. وفي الوقت الذي سقط فيه الحكم الشخصي في الدول المتقدمة، توالت الحكومات العربية، الموالية لنزوات القيادات الفردية. وعن قصد، عمقت الأحزاب الإدارية، اللجان الشعبية وغيرها من المؤسسات المدنية المصطنعة،  التخلف والأمية. وخوفا من المطاردة والعقاب، تنازلت الجماهير الشعبية طواعية عن ممارسة حقوقها الدستورية، وأصبح أفرادها اتكاليين. وفي متاهة التغيرات التي يعرفها العالم، والمآسي التي تعاني منها بعض شعوب العالم الثالث، وتصاعد المد الأصولي،  استشعرت بعض الأنظمة العربية، السائرة في طريق الديمقراطية، خطورة مرض الجهل، فبادرت إلى محاربة أعوام من الأمية، كخطوة ضرورية لتنمية الوعي،  والتخلص من الداء، الذي بات يهدد تدريجيا الكيان والحضارة. 
فالجرائد، المجلات ومواقع الإنترنيت، الخاصة بالقضية العربية، لا تكفي وحدها في واقع أمي تتحكم فيه الانتهازية، والوسيلة السريعة الانتشار والأكثر قوة و تأثيرا على الجماهير هي الإعلام المرئي، الذي ظل، منذ الإستقلالات المشروطة،  إعلاما نظاميا/ شخصانيا مغرضا، مشحونا بالحماس الفارغ، وبهرجة الأوضاع، وإخفاء الحقيقة،  فاستطاب البترودولار  والقادة العرب السلطة، وبنت أنظمتهم صروحا وهمية شامخة أخفت، لسنوات طويلة، حقائق الوضع القائم على المستوى القطري، العربي والدولي، وتجرع الشعب العربي الهزيمة تلو الأخرى.  ورغم صلابة تلك الصروح، وحراسها الأشداء، اخترقتها، بعد كامب ديفيد، الثورة التكنولوجيا الإعلامية المتطورة، الكومبيوتر، الأقمار الاصطناعية،  شبكات الانترنيت، والعالم الافتراضي.. عصر يتميز بتعدد قنوات التلفزيون الفضائية، التي غزت البيوت، وجعلت العالم "قرية صغيرة "، تكشف الأحداث، وتعرض صور وقائع الصراع العربي ـ الصهيوني بقراءات مختلفة تعمق الجرح المؤلم، وتؤزم نفسية المواطن العربي.
             فالسياسة الإعلامية العربية، التي سادت الوطن العربي لأكثر من أربعين سنة، تتأرجح بين إعلام قطري محلي، نموذج إعلام المغرب العربي،  يتناول بالتفصيل المبهرج الأخبار المحلية،  ثم مختصرات الأخبار العربية والفلسطينية والدولية، مأخوذة عن وكالات عالمية.  وآخر خطابي قومي، نموذج إعلام دول المواجهة مع إسرائيل، ثوري التوجه،  يتحكم فيه الحزب الواحد الحاكم. القاسم المشترك بينهما إفتقادهما لخطاب سياسي عقلاني تواصلي موحد، يلبي طموحات وحاجات الجماهير النفسية، ويفضح المؤامرات اللاإنسانية التي تعرضت لها فلسطين.   فلم يكن في مستوى الرهان لكسب الأحداث سياسيا.. إعلام يغلي بخطابات انفعالية، تفتقر إلى الانضباط المنطقي للأمور، والتحليل الموضوعي للأحداث. مما يؤثر في عمق توجهات المواطن العربي وممارساته السلوكية، "..إن الشعوب شديدة الحساسية إزاء السياسات المخادعة والكاذبة أو المضللة فحيثما يكتشف الشعب خداعا أو تضليلا تضعف ثقته بالإعلام الداخلي فينصرف عندئذ إلى الإعلام الخارجي مكرها، ساعيا وراء سماع الحقيقة الإعلامية، أي الخبر الصحيح، وهنا تكون المصيدة " (م9. ص159 ) وفي حيرته واضطرابه،  تجتذبه، تدريجيا القنوات الإذاعية والتلفزيونية العالمية. وبعد كامب ديفيد،  وثورة الصحون المقعرة، سحرته الفضائيات الغازية للبيت العربي،   فبات المواطن العربي يعيش "وضعية مأزقية"، محاصر بين إعلام صليبي ـ صهيوني متقدم خطير، دعائي مقيت، وفني مثير، يسلبه تدريجيا هويته، وآخر شيوعي الإيديولوجية، وإعلام عربي سلطوي تبريري قامع،  ينطوي على هدر القيمة الإنسانية للمواطن، يفرض عليه، عن قصد أو دونه، أقصى درجات التخلف..  وعند معاينة شبكات البرامج التلفزيونية العربية،  بعد حرب الخليج، والانتشار الكثيف للفضائيات، تبدو متشابهة رغم بعض الاختلاف، مرده مصادر التمويل. وتستطيع مشبوهة التمويل والمبدأ أن تخترق ثوابت كل الأنظمة العربية إلا النظام الذي يحتضنها، وله علاقات تطبيعية عميقة، علنية وخفية، مع الصهيونية..   فكثرت وتنوعت البرامج الإخبارية والإعلامية المقلدة للغرب،  والمدبلجة عنهم أيضا. لينضاف إليها، في السنوات الأخيرة،  ما يمكن تسميته بالإعلام الشعبوي، الذي تمثله قناة الجزيرة، ظاهرة الرأي والرأي الآخر وغيرها من الآراء المتضاربة.
               أيعتقدون أن تقديم صور المذابح والإرهاب، الذي تمارسه الصهيونية على الشعب العربي في فلسطين، إعلام كفيل لتحريك الرأي العام الدولي؟ ماذا قدمت هذه الصور للقضية، وبالخصوص للانتفاضة التي تحاصرها الصهيونية بشتى أنواع الإرهاب، منذ أكثر من سنة؟  كيف تعامل الإعلام العربي مع صورة الشهيد محمد الدرة، التي قتلت إسرائيل إعلاميا، على حد قول أحد الصحافيين الإسرائيليين؟  أيعتقدون أن الرأي والرأي الآخر لضرب الذات العربية هو المطلوب للقضية والوحدة العربية؟ هل هذا هو الإعلام؟ إنها مهزلة إعلامية!  فالقضية العربية في حاجة إلى سياسة جريئة، واضحة المعالم وموحدة الأهداف، تحركها ديمقراطية عربية، لأن ديمقراطية الغرب، المصدرة إلينا، كمادة إعلامية استهلاكية، ديمقراطية استغلالية في مواقف الغرب مع مستعمراته القديمة/الحديثة، وبالخصوص العربية. ديمقراطية مشروطة، باستمرارية الولاء المذلول، وتعميق التخلف والفقر في المجتمع العربي. ديمقراطية ليس لها بعد إنساني!
            وأعتقد أن غياب الإرادة والإستراتيجيات العلمية في السياسة العربية هو سبب هزائمنا المتتالية،  سياسات قاصرة على صنع إعلام تنموي، وطني وقومي، مضاد للإعلام العنصري الاستحواذي. أكدت عن عجزها في خلق برامج هادفة،  تفند أكاذيب الصهيونية ومغالطاتها التاريخية، أو على الأقل، تدفع المتلقي إلى إعادة النظر في مواقفه من القضية.  سياسات أساءت استعمال الإعلام، سيجثه بأشواك كهربائية. في حين، الحرية الإعلامية ساعدت في بناء الديمقراطيات المتقدمة، كأداة اتصال وتسليط الضوء، وفضح الملابسات وكشف فضائح وتلاعب المسئولين وخيانة أصحاب القرار، وإجبارهم على الاستقالة، وفي حالات نادرة الانتحار، هربا من مواجهة الفضيحة..  إعلام فاعل أدبيا، وفنيا، ومضمونا.. أما في الدول العربية، ظاهرة "الحكومات المستمرة"،  ففعالية الإعلام المرئي محدودة، جعلته السلطة أداة للتغليط، التضخيم، المراوغة والتحامل، بأساليب وتبريرات انهزامية،  تفتقد إلى الموضوعية والمنهجية العلمية،  لإعطاء صورة واضحة عن الأحداث والوقائع، والظواهر الظرفية بكل أبعادها السياسية، الثقافية، الحضارية. ولا يستطيع الصحافي/الإعلامي تجاوز الخطوط الحمراء، والخوض في الأمور الحساسة، يراها نظيره في الدول المتحضرة أمورا عادية، يجب كشفها للمواطن، ليتحمل المسؤولية. إعلام حريته محدودة وملغمة، ويفتقر إلى التخصص والتكوين الاحترافي، ففي غالب الأحيان لا يرقى إلى مستوى المهمة الإعلامية الناقدة البناءة..  فترى نفس الصحفي /الإعلامي يسائل مرة المفكر، ومرة الاقتصادي، ومرة السينمائي، ومرة الطبيب، ومرة المقاوم، ومرات السياسي، والشاعر، والروائي، والمسرحي.. بينما في الدول المتقدمة يبعثون بالصحافي المتخصص، من النقاد والباحثين لمساءلة الضيف، حسب تخصصه، وذلك بقصد محاورته في جوهر أهم القضايا، التي تهم الرأي العام المحلي، القومي والدولي، وتخدم مصالحهم واستراتيجياتهم الوطنية، الإقليمية والدولية. أما على مستوى المواد التلفزيونية، فتتهافت قنوات السياسة التبريرية الاستهلاكية على اقتناء البرامج الغربية، الوثائقية، التسجيلية، التاريخية وغيرها،  أنتجتها مؤسسات مناهضة للعرب والإسلام، اعتمدت في معلوماتها على أرشيفات وتقارير أجهزة الاستخبارات الغربية، البريطانية ـ الأمريكية ـ الصهيونية. ونأسف كثيرا عندما تترجم تلك البرامج بحذافيرها، وتعرض مدبلجة على المشاهد العربي، عن قصد أو دونه، لترسخ تغليط الحقائق، وتزييف وقائع التاريخ، بإعطاء أرقاما مبالغ فيها عن ضحايا النازية الهتلرية. في حين،  يسجل التاريخ جرائم الصهاينة في حق بني إسرائيل، الذين آمنوا بالدين، ولم ينصاعوا للسياسة الإسرائيلية العنصرية، فمحت الصهيونية وجودهم من أوروبا، وبيتت لهم العديد من العمليات الإرهابية، وسارت باكية في جنائزهم، ناسجة، حول أكباش فدائها، الكثير من الخرافات والأرقام المشبوهة، فندها المفكر الفرنسي روجي جارودي في كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية".(م.11 ) قصص وأساطير روجتها، باحترافية إعلامية عالية، عبر برامج معينة، احترمت فيها معايير الجودة التقنية والفنية المؤثرة، دبلجت إلى العربية ولغات أخرى.  وعند معاينتها، يستخلص المشاهد الرسالة، التي تمررها تلك البرامج، ويتجاوب معها مهما كان متعصبا لمواقفه،  وهي أن الشعب الصهيوني، شعب مظلوم تاريخيا، يستحق التعاطف والمؤازرة والحماية.
               ورغم الانحياز الأوروبي والأمريكي الواضح، لا أعتقد أن المجتمع الدولي، بما فيه الغربي والأمريكي، ضد الحقيقة التاريخية، ويؤمن بأساطير الصهيونية، ومتواطئ معها في خروقاتها الإنسانية والدينية..  إذا أخذنا بعين الاعتبار،  الوقفات الاحتجاجية المدنية، التي عرفتها العديد من المجتمعات العالمية ـ قبل العربية ـ بما فيها أمريكا، ضد الإرهاب العنصري الصهيوني، تستنكر وحشية شارون والآلة العسكرية الصهيونية ضد الفلسطينيين. وامتدت حملة النقد الدولية إلى داخل المؤسسات السياسية الإسرائيلية نفسها، التي أصبحت تطالب بوقف الممارسات الوحشية وغير الإنسانية ضد المدنيين، لما لها من تأثير على إسرائيل في المحافل الدولية، ديمقراطية بالطريقة الصهيونية. لكن غياب مؤسسة إعلامية عربية موحدة، ذات مصداقية، تحترم قدسية الخبر وحرية الرأي، وقادرة على استغلال الأحداث إعلاميا، وصناعة المواقف والآراء،  يشجع الصهيونية على الاستمرار في ممارساتها القمعية الإرهابية القاتلة. 
فالشعب العربي في حاجة إلى إعلام مستقل وجريء، كقوة مضادة، أو ما يعرف بالسلطة الرابعة،(م.10 ص.80) إعلام  فاعل، يحلل الوقائع، ويواكب المستجدات وطنيا، عربيا ودوليا.  إعلام مناهض للحركة الصهيونية، والإمبريالية الصليبية، والاستسلامية العربية!! لهذا لابد من بنية جديدة، وقيم ذهنية عربية جديدة. عقلية واضحة، وإرادة جريئة للدفاع عن القضايا العربية، على رأسها فلسطين المغتصَبة، رمز الوحدة والكرامة العربية.  
              وللأسف، على امتداد خمسين سنة، ظل إعلامنا ـ المرئي ـ أسير مصالح وأهداف السياسيات النظامية/الحزبية/ الشخصانية، وردود فعل متضاربة.. وفي كل يوم، شهر، سنة تكسب إسرائيل حروبها، السياسية، العسكرية، والإعلامية، بخطط علمية،  واستراتيجيات قوية، مبنية على الخداع المنظم، والترغيب، والتبرير، إلى أن عمت المأساة، وتغطرست الصهيونية بكل وسائلها وأجهزتها البربرية القاتلة. حروب عرت حقيقة الوضع السياسي والإعلامي العربي، وعمقت الانقسام على حساب القضية، مما أغرى الصهيونية على التمادي في إرهابها داخل فلسطين. وعندما تقع عمليات إرهابية ضد مصالح أعداء العرب والإسلام، تقوم القيامة بشكل متكامل بين الدبلوماسي والإعلامي الغربي ـ الأمريكي ـ الصهيوني، والتواطؤ العربي الانهزامي التابع له. فتقدم برامج إخبارية جاهزة،  وتنجز أخرى وثائقية مسايرة للعبة الصهيونية/ الصليبية.  وتعرض ندوات إخبارية/إعلامية، معدة سلفا، تتهم فيها العرب والإسلام، منذ الوهلة الأولى، بضلوعهم في هذا الحادث العنيف أو ذاك، مع غض الطرف عما تقترفه   الصهيونية في فلسطين، والصليبية في السودان، الصومال، الشيشان... العراق وأبشعها مجزرة أفغانستان،  بعد الثلاثاء الأسود،  الذي زعزع كيان أمريكا وفاجأ العالم قاطبة. لتأتي الجمرة الخبيثة، الموجهة لشخصيات أمريكية معينة، وتطرح أكثر من سؤال!! ويعجز الإعلام الصليبي/ الصهيوني على إيجاد صيغ دامغة لإلصاق التهمة بدولة عربية،  فيعترف على مضض أنها أمريكية. ولا يزال الرأي العام العالمي يتذكر الحادث المروع الذي هز مدينة أوكلاهما الأمريكية في عام 95، وأسرعت وسائل الصهيونية الصليبية إلى اتهام العرب والمسلمين،  ثم كشفت الحقائق والتحقيقات أن الجاني مواطن مسيحي، أمريكي الجنسية، وليس عربي ولا مسلم. حقيقة أذهلت أمريكا نفسها!  ولم تعر وسائل الإعلام أهمية لذلك، تجاوزته بسرعة،  فقط لأنه   مسيحي، وعنفه لا يمثل  إرهابا، بالشكل الذي يربطه الإعلام الإمبريالي الصهيوني الصليبي بالأصولية الإسلامية ، ولذلك، لم يحشد قوته لإيجاد البرامج والوسائل الناجعة لرصد الإرهاب،  والتعاون لمواجهته، فتجاوز الإرهاب الأمريكي الصليبي، وصمت ديك إعلامهم عن الصياح...  مما يؤكد إمكانية أن يكون العنف، الذي يضرب أمريكا، في الداخل والخارج، من وقت لآخر، من صنع أمريكيين  مناهضين للسياسة الرسمية، أو الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، أو يابانيين، أو فيتناميين، أو لاتينيين، أو إفريقيين، ولما لا الصهاينة أنفسهم؟ وليس العرب وحدهم‌‍! فجرائم أمريكا الرسمية في حق الشعوب، بما فيهم الأمريكي الأصلي،  كثيرة ولا تحصى!
               لهذا،  تستوجب الروح الوطنية والقومية العربية نوعية إعلامية مضادة خاصة، لحماية المشاهد العربي من خطر الديمقراطية الغربية الناسفة لكل ما هو عربي غير مغترب. فغاية الإعلام الغربي المصدر إلى العالم العربي بخلفية ديمقراطية، تحقيق المزيد من المصالح الاستراتيجية القريبة والبعيدة المدى، وتمييع خصوصيات الحضارة العربية. فالغرب ينظر إلى العرب نظرة دونية، ليس هناك اهتمام متبادل بين الإعلام الغربي المتقدم والإعلام العربي التابع له، على مستوى الإمكانية الإعلامية والمعلومة،  كحق إنساني تفرضه الديمقراطية الحقة، التي يتباهى بها الغرب، " فلا يكفي إذن أن تمتلك بلدان العالم النامي وسائل إعلام حديثة ومتطورة، كما لا يكفي أن تقوم فيها إدارات إعلامية متقدمة واعية، إذ لا بد لها من الخلاص من هيمنة وكالات الأنباء العالمية الغربية."  (م9. ص162 ) هيمنة فرضها تذبذب التواصل بين العرب،  وفقدان الثقة بينهم، وغياب التعاون المشترك وتبادل نقل الأخبار والمعلومات، لمعرفة ما يجري في المحيط الذي يعيش فيه المواطن العربي في هذا العالم الواسع جغرافيا، والذي جعله الإعلام الصليبي ـ الصهيوني المتقدم صغيرا إعلاميا،  بتوفير خدمات نقل المعلومات والأخبار المصورة، يمرر عبرها مواد مصنعة خصيصا للتصدير إلى العالم العربي، مبطنة بديمقراطية متحايلة، تستلب تدريجيا مكونات الشخصية العربية الثقافية، الوطنية والقومية. وتتعامل السلطة العربية مع مواطنيها إعلاميا بنفس الديمقراطية الاستغلالية الخبيثة،  فتتماها بأحكام الإمبريالية الغربية، وعدوانها، وقيمها، وأسلوب حياتها، والالتزام بتحاليلها الصحفية، وتقديرها وترتيبها للأمور.. سياسة إعلامية استعراضية،  تتيح النقل الممل لأخبار وأحداث متنوعة بعيدة عن هموم المواطن العربي.  ولا تعجز بعض الإدارات التلفزيونية العربية عن نقل مباريات كرة القدم وغيرها من التظاهرات الرياضية والفنية العالمية من مختلف القارات.  وتتعب كاميراتها كثيرا في ملاحقة الجماهير وتهييجها هنا وهناك، للتعبير عن فرحتها الهستيرية أو حزنها المتهور، بعد أي انتصار أو هزيمة الفريق المفضل أو الفريق القومي. ولا تستحي، نفس القنوات، من نقل مباشر لسباق ماراطوني تتعدى مدته ساعتين، في حين، تعجز عن بث تظاهرات تضامنية مع شعب عربي في محنة قاتلة، إن رخص لها بذلك، وتقتصر فقط على الإخبار، وفي حالات نادرة على ملخصات موجزة، تستعرض فيها ما تمليه السلطة الوصية!   
              ويعلم المتتبعون لتطورات القضية العربية بأنه يستحيل إذاعة برامج تلفزيونية مساندة للقضية الفلسطينية في أهم القنوات الأوروبية والأمريكية، في الوقت الذي أفسحت فيه المجال للدعاية الصهيونية لتقتحم المجتمع الغربي والدولي، وتزرع فيه الرأي العام الذي يخدم مصالحها العنصرية الاستعمارية، ويشوه صورة العرب.  وعندما يتجرأ صحفي يحترم إنسانيته وضميره المهني، على تحدي إغراءات اللوبي وضغوط الصهيونية،  يتعرض لكل أنواع المضايقات.  وخوفا من تشجيع الصحفي والإعلامي العربي على التمرد والإقتداء بالصحفي الإنسان، الملتزم بمبادئ المهنة الصحفية والإعلامية،   لا تحرك السلطات العربية ساكنا، لاحتضانه وحمايته، كما يفعل الغرب لمن يساند أفكارهم. هذا السلوك القمعي يشجع الصهيونية/ الصليبية على غزو الجماهير العربية إعلاميا، لتخريب عقائدها، وقلب موازينها، وتدمير ثوابتها، وصناعة رؤى أخرى تتماشى وخطها الإيديولوجي، في السلم وفي الحرب.. فصوت العرب غير مسموع، مزقته وخنقته تناقضات ونزاعات الأنظمة العربية، وشوهته الصهيونية،  لتعيده الصليبية بصياغات خاصة، تضرب القضية الفلسطينية في العمق، وعلى مضض يصادق عليها الإخوة الأعداء في مؤتمراتهم العادية والاستثنائية، آخرها مؤتمر بيروت.. حرب نفسية، تحرف الحقائق وتضلل الناس،  وتذكي لهيب الفتنة،  وروح الطائفية والنزاعات الانفصالية.. وليس أبلغ وصف لهذه الحرب، ما كانت تتمحور عليه الدعاية النازية في الحرب العالمية الأولى " إننا نستهلك كمية كبيرة من الذخيرة الغالية الثمن لندمر مدفعا واحدا من مدافع العدو. أليس من الأفضل والأرخص أن نخترع وسيلة أخرى تشل الأصابع التي تضغط على زناد هذا المدفع؟" (م9. ص161 ) أما السياسات العربية الفلكلورية السائدة، فتعتبر التلفزيون مجرد جهاز للترفيه وملء الفراغ، عبرت عنه نوعية الخطابات السياسية الاستعراضية، والبرامج الثرثارة المتضاربة، التي تشعر المواطن العربي بأنه مضيعة للوقت، بالخصوص بعد حرب الخليج الثانية، التي عرت حقيقة وضع العرب في واقع دولي معقد، تعتمد فيه التنمية على تكنولوجيا الإعلام والاتصال.
             الشعب العربي في حاجة إلى وفاق عربي،  يسير والرغبة الشعبية القوية لتجاوز مخلفات سنوات من الهزائم والنكبات،  وإثبات الذات العربية. ولن يتمكن من ذلك إلا بالنهج الديمقراطي، نهج فكري سليم لإقامة نظام سياسي، اقتصادي اجتماعي، عسكري وإعلامي. نظام متفاعل مع حقائق العصر ومتغيراته، قادر على تحقيق التطلعات الجماهيرية، وتحدي أعداء الجنس العربي في النظام الدولي الجديد، الذي يحول دون تبلور قوة محلية إقليمية مؤهلة لقيادة ثورة عربية غير تابعة لنظامه، ويترصد لأية نواة صحوة عربية، متهما إياها بالإرهاب. فيتآمر عليها بغية إحداث تحولات جذرية في المجتمع العربي، بالابتزاز والضغط المعنوي والمادي لشل الإرادة الشعبية في الدفاع عن قضاياها المصيرية. وأيضا بالقوة وإرهاب الدولة،  وتأثير التكنولوجيا الإعلامية والإتصالاتية، كأداة تهيئ الأرضية الموالية للإطاحة بسياسة وقيام أخرى، بقيم ومبادئ وإيديولوجيا ذليلة، تبارك ما تقوم به الآلة العسكرية الصهيونية في فلسطين، والصليبية  في العراق وأفغانستان، ومناطق أخرى... ويبرره الإعلام الدولي، الذي تهيمن عليه الصهيونية العالمية، ويبتلعه الإعلام العربي الرسمي، الفاقد لإرادة سياسية واضحة، ورؤية عربية موحدة مناهضة. ففاقد الشيء لا يعطيه!
               على السياسات العربية أن تعيد موقفها من أهمية الإعلام وجهنمية دوره، للتصدي ومجابهة إعلام العدو على جميع الجبهات، وبأشكاله وأحجامه المتعددة. فالنفور بين الأنظمة شتت الإعلام العربي، جعله دون رسالة إعلامية واضحة ومؤثرة، تغطي الأحداث باحترافية موضوعية، في واقع تتحكم فيه قوة الثورة التكنولوجية الإعلامية ـ كمصدر تفاوت وتسلط سياسي، وتفوق عسكري وهيمنة اقتصادية وثقافية للبلدان المصنعة.  (م.10ص366 ) ولتحقيق إعلام جريء قادر على اختراق جدار الوهم، والتضليل الذي بثته الدعاية الصهيونية في عقلية المساندين لإرهابها، يستلزم استقلالية الإعلام والإنصات للشارع العربي. ديمقراطية بناءة،  تتطلب ذهنية نظامية جديدة، بفلسفة إعلامية متطورة، تعتمد استراتيجيات علمية هادفة، مسايرة للمتغيرات الدولية دون فقدان الهوية العربية، تجعل من التلفزيون، ليس فقط أداة للاستمتاع، بل أداة للتعليم والتربية والتوعية والتعبئة الوطنية والقومية. يقوم برسالته الطبيعية في تقوية حس الانتماء، وتنمية الوعي الاجتماعي،  السياسي والقومي. فمنذ انسحاب المستعمر، والإعلام العربي الرسمي لا هو اشتراكي المبدأ، ولا هو رأسمالي محض، ولا هو إسلامي خالص. إعلام يقوم على الحساسيات الضيقة التي تثير النزاعات الشخصية العابرة، يؤجج شرارتها الإعلام الصهيوني ـ الصليبي،  ليُقصي الحس القومي الذي يخدم القضية الفلسطينية على الخصوص، والقضايا العربية على العموم. إعلام يعتمد التهويل، والتخويف، وإخفاء الحقيقة، وتعظيم الأشخاص، في الوقت الذي يعظم فيه الإعلام الديمقراطي الأعمال. فلا يكفي أن نساير العصر ونمتلك وسائل إعلامية جد متطورة، وإنما كيف نسخرها في حربنا النفسية وتنمية مجتمعنا وتوعية الشعب العربي،  المنحصر بين إعلام صليبي ـ صهيوني مسموم، يفتك بكل مقوماته وروحانياته، وإعلام عربي نظامي معوق،  يتيح للصهيونية الفرص لنشر الإشاعة، وكسب الأحداث سياسيا وإعلاميا، باللغات الحية بما فيها اللغة العربية، عبر إمبراطوريتها الإعلامية، بالخصوص الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية. ويستهلكها المستمع المشاهد دون حاجز فكري ثقافي مضاد،  وتمارس عليه كل أشكال الإغراء، والكره لهويته وانتمائه، فينساب معها رغما عنه، كنوع من التدمير النفسي والحقد على الوضع القائم.
               والتاريخ لا يهزل، وعلى العرب أن يصنعوا تاريخهم،  فالحتمية التاريخية تستلزم تغيير ذهنية القيادية العربية في تعاملها الانتهازي مع القضية الفلسطينية، وفك الحصار على الإعلام. فاستقلالية الإعلام يقوي الإرادة، ويعزز الإحساس بالمسؤولية.  ديمقراطية سياسية تنموية جريئة،  وإعلام نهضوي ممنهج، له إستراتجيات وأهدافه محددة في مواجهة النفوذ الصهيوني الكاذب، وتتولى جامعة الدول العربية تنفيذ المهمة الإعلامية القومية والتنسيق بين القنوات العربية،  من أجل رؤية موحدة تحترم نفسها ليحترمها الآخرون، وتخرق الصهيونية، لتمرير الرسالة إلى الجهة المقصودة. ولكي تقوم الجامعة بمهمتها، التي نص عليها ميثاقها التأسيسي، يستوجب أن تكون بعيدة عن وصاية هذا النظام أو ذاك، تتبنى خطة إعلامية علمية، لتفنيد الصيغ المغلوطة التي تروجها الصهيونية، تظهر الفلسطينيين إرهابيين، وغير منطقيين في رفضهم لأي تسوية على حساب الأرض والكرامة وحقوقهم الشرعية. وهذا ما خرج به وزراء الإعلام العرب بحضور الرئيس ياسر عرفات في اجتماعهم الأخير بمقر جامعة الدول العربية،  في 15 غشت 2000.
                 ـ  مـاذا يستوجـب فعلــه؟
               تستلزم الضرورة سياسة إعلامية تأخذ برأي الشارع العربي، ترتكز على برنامج عمل، عبر مختلف الوسائل الإعلامية المتاحة، لتحقيق أهداف معينة. خطة علمية عملية لتحريك آليات الإعلام الجماهيري وصناعة برامج تلفزيونية تعبوية جادة، تنعش الذاكرة التاريخية للقضية الفلسطينية، وتورثها للناشئة العربية المتعاقبة، بغية تعميق الوعي القومي بأنه صراع "عربي ـ إسرائيلي" وليس فقط "فلسطيني ـ إسرائيلي"،  لتواصل   الأمة العربية مقاومتها للاحتلال الصهيوني، حتى يتحقق النصر.. وهذا يتطلب خطة عمل ثلاثية الأبعاد، الآني والقريب والبعيد، وإنشاء لجن عربية مختصة في جميع الفنون، لأنها متكاملة، تبث في القضايا الإعلامية العربية، لتذويب الخلافات. كما يتوجب تأسيس مركز هيئة لتعريب الأعمال الأجنبية المتعلقة بالقضايا العربية وتوحيد المصطلحات، يشرف عليها أساتذة مختصين في التاريخ واللغة وعلم الاجتماع، النفس...، فالأعمال المدبلجة، تقوم بترجمتها مؤسسات عربية تجارية، الهم الشاغل لأغلبيتها الربح السريع. وتعمل اللجن المفوضة على إعداد وإنجاز برامج إخبارية وإعلامية تختلف في النوعية والمضمون،  تجمع بين الصوت والصورة، وتستعين بتقنيات الحاسوب الحديثة والمؤثرات الصوتية والبصرية، لرسم البيانات وخرائط المواقع، الحقيقية أو الافتراضية، كما تفعل الإمبريالية الثقافية الصهيونية/ الصليبية في افتراءاتها الإعلامية.
 ـ فعلى المستوى الوطني، تضع كل قناة عربية، إلى جانب مواكبتها لمستجدات الأخبار والأحداث الوطنية، والعربية، والعالمية، إستراتيجية عمل المشاركة، مستمرة وليس منسباتية، في الكفاح والنضال الإعلامي لخدمة القضية، بإنجاز و تقديم برامج إعلامية يومية وأسبوعية، وثائقية، إخبارية تحليلية ودرامية وغيرها، لصالح القضية الفلسطينية.
 ـ وعلى المستوى القومي، توضع خطة عمل إعلامية للتبادل والتعاون وإنجاز أعمال مشتركة، وإيجاد استراتيجية إعلامية، تتناوب خلالها القنوات العربية،  بتقديم يوم شهري خاص عن القضية الفلسطينية،  ينقل مباشرة على القنوات العربية، وتقوم لجنة إعلام جامعة دول العربية بالتنسيق التنظيمي التناوبي بينها.
 ـ وموازاة ذلك، يتم إنشاء قناة/قنوات عربية فضائية موجهة إلى القارات الخمس، تحت إشراف جامعة الدول العربية، من أجل إعلام قومي موحد مضاد للدعاية الصهيونية. تقدم برامج وثائقية عن مختلف مراحل تاريخ القضية، والمؤامرات الإمبريالية الاستعمارية الغريبة، ومناقشتها بلغة المجتمع الموجهة إليه، مع فعاليات عربية، وشخصيات عالمية فاعلة مناهضة للحركة الصهيونية العنصرية،  مؤرخين، رجال الدين، سياسيين.. وتعزز الجامعة شبكة برامج قنواتها بتقديم برامج متنوعة،  تكشف عوائق الوحدة العربية، لتظل القضية الفلسطينية عاجزة عن النصر. وتواكب، في نفس الوقت، الإرهاب الهمجي الدامي للصهاينة، في قتل كل أنواع الحياة العربية في الأرض الفلسطينية. برامج وثائقية تسجيلية، حسب لغة وطبيعة سيكولوجية المجتمع المستهدف، تستعرض مراحل تطور القضية،  بأفكار موضوعية مقنعة وصور مؤثرة، وأسلوب سلس،  وإخراج معبر هادف، منها :
         * برامج تكشف الحقائق التاريخية حول الاتفاقيات والمعاهدات البريطانية التحايلية على المشايخ العرب في بداية الغزو،  والمؤتمرات الغريبة لتجزئة الأراضي العربية، بصيغ ترضي الإمبريالية الاستعمارية الأوروبية، والرهان على الصهيونية بتحقيق رغبتها العدوانية وحشرها في منطقة عربية استراتيجية، لتبقى بؤرة توتر دائمة، ومسرح مآسي يومية... تاريخ يجهل تفاصيله الكثير من العرب أيضا!
         * برامج عن الأساليب الصهيونية الإرهابية لقتل كل أنواع الحياة الفلسطينية العربية، لإعاقة التطور البيئي، والاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، والحضاري العربي.. انتهاك سافر لجميع الأعراف والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان،  التي نصت عليها المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948: "لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها للآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود".
         * برامج عن مدى التأثير الخطير للحروب الكيماوية على الناس والهواء وخصوبة الأرض وجودة المياه الجوفية،  الذي سوف يبرز وبقوة مشكلة المياه في المنطقة، دون نسيان أن بداية تحويل مجرى نهر الأردن لصالح إسرائيل كانت في 1954،  فالحروب المستقبلية هي حروب المياه، وقد نبه إليها العديد من الشخصيات العربية، وأثارتها بعض الأعمال الدرامية في العشرية الأخيرة من القرن العشرين، كالمسلسل السوري "تل الرماد" الذي تناول رؤية مستقبلية عن حرب المياه، واحتكار مصادره، كقوة استراتيجية لتحقيق أطماع ومخططات توسعية أخرى،  لمؤلفه غسان جباعي، والمخرج السوري نجدة إسماعيل أنزور!
        * برامج عن قدرات إسرائيل النووية: ماذا تكشف لنا الأقمار الاصطناعية عن مفاعل ديمونة ؟..
        * برامج إخبارية لمناقشة بعض الكتب التي أثارت ضجة في إسرائيل والعالم، وحاربتها الصهيونية بقوة، منها كتاب "إسرائيل والقنبلة" لفنير كوهين، كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" للمفكر الفرنسي روجي جارودي وغيرها..
        * برامج عن التعسفات الإرهابية الإسرائيلية، التي لحقت بالصحافيين والعاملين في وكالات الأنباء المحلية، العربية والعالمية داخل فلسطين، أثناء قيامهم بمهامهم الصحفية لتغطية الانتهاكات الإسرائيلية في حق الشعب المحاصر.  وقد تعرضت لهم بشتى الوسائل القمعية الإرهابية، مصيبة إياهم بإصابات مختلفة الخطورة وقاتلة.
          * برامج عن المذابح السوداء التاريخية في حق المدنيين في القرى الفلسطينية والعربية المجاورة لها، منذ الأربعينات من القرن الماضي. بدءا بمذبحة الخصاص، وباب العمود،وبلد الشيخ ، وأشهرها مذبحة دير ياسين، كفر قاسم، خان يونس ...   صبرا و شتيلا،  مذبحة قانا... والقائمة طويلة..
         * برامج عن اليهود المتنصرين لخدمة الحركة الصهيونية العنصرية.
         * برامج عن المحاكمات الصهيونية المفتعَلة ضد اليهود، الذين رفضوا مجارات الصهيونية في عقيدتها السياسية...
        * ...... 
             كما يجب أن لا يُهمل الفن السابع، فلا أعتقد أن الأفلام العربية يهتم بها، المشاهد الغربي أو الأمريكي، فهي أفلام موجهة إلى المشاهد العربي على الخصوص،  فأهم الإيرادات التي حققتها بعض الأفلام العربية، الجادة قليلة والتجارية كثيرة، على الخصوص المصرية والسورية، هي من شبابيك عربية وليس غربية. فلماذا لا تقوم الجامعة، من خلال لجنتها الإعلامية، بما تقوم به مؤسسات صهيونية بهوليود؟  لتعمل الجامعة على إنشاء صندوق الدعم للفيلم العربي الملتزم، وتشجيع رؤوس الأموال العربية على الاستثمار في هذا المجال، وتقوم بعملية التنسيق على مستوى الإنتاج، الدعاية والتسويق.. لماذا لا يتم، من حين لأخر،  إنتاج عمل سينمائي ضخم، من توقيع مخرج عربي متميز، أو توقيع عربي مشترك، للمشاهدة العربية والعالمية؟. وقد سبق للمخرج المصري يوسف شاهين، قبل أسابيع، أن استنجد بمساعدة جامعة الدول العربية لإنجاز أحدث أفلامه عن القدس.  كما يجب على الجامعة أن تعمل على خلق فضاءات ثقافية فنية، والتنسيق على عقدها، بشكل دوري تناوبي، في البلاد العربية والعالمية. منها:
·        مهرجان خاص بالأفلام الملتزمة الفلسطينية، العربية والعالمية..
·       مهرجان الأغنية الملتزمة الفلسطينية، العربية والعالمية..
·       مهرجان لأهم الربورطاجات، والتحقيقات والبرامج المدبلجة.. 
·       مهرجان للكاريكاتير الناقد..
·       مهرجان لأفضل الصور الفوتوغرافية المعبرة ..
·       .....
                  ـ إعـلام أن نكـون أو لا نكـون!
              لقد نجحت السياسات الغربية ـ الأوروبية و الأمريكية ـ في استخدام الإعلام بصفة عامة، والمرئي الجماهيري بصفة خاصة، وتوجيهه نحو أهدافها الاستراتيجية،  بالتأثير في تقاليد وقيم الشعوب،  وتغيير سلوكيات أفرادها واتجاهاتهم نحو مفاهيم معينة، تخدم مصالح الصليبية في القضايا التي تفتعلها من حين لآخر. أغربها تثبيت الوجود غير القانوني واللاتاريخي لإسرائيل، والتحريف الواضح للمفاهيم المتعارف عليها إنسانيا، كحقوق الإنسان، الحرية، الديمقراطية، الاستشهاد والإرهاب وغيرها...  وإخفاء الحقيقة، وإنكار التاريخ، كما تعاملت مع قضية الشعب الفلسطيني والقدس الشريف.  إضافة إلى اختلاق أسباب لتغذية الخلاف، وإثارة الفتن بين الزعامات العربية الهشة، المفتقرة لرؤية فلسفية إعلامية تجمع بين التأثير والإقناع لكسب الرهانات السياسية. فوجدت القضية الفلسطينية صعوبة في طرح حقها الشرعي في خضم    التعتيم الإعلامي الغربي ـ الصهيوني والعربي الرسمي. لتنضاف نكسة الإعلام إلى النكبات التي تحملها الشعب العربي في الصراع الدامي مع إسرائيل.وعند معاينة دعم الإمبريالية الغربية لأبعاد الحركة الصهيونية العنصرية، يستخلص المتتبع للقضايا الإنسانية،  أن الصراع يرتكز على إبادة عرقية، تضرب في جذور الجنس العربي، فعداوة اليهود للمسيح أرعن من حقدهم على المسلمين.. ومع ذلك تنصرهم الصليبية الحاقدة لسحق العرب والمسلمين؛  بدءا بحرب الأيام الستة إلى الدمار الهستيري الشامل، الذي تقوده حاليا حكومة شارون العنصرية ضد عرب فلسطين.  فجعل منها الغرب فزاعة آلية قاتلة،  تتحرك عن بعد، لجس نبض بعض حكام العرب من حين لآخر.. حرب عرقية شرسة أداتها السلاح الحربي، والوعود الكاذبة والإعلام الخطابي التضليلي، التبريري، التحايلي بجميع وسائله.  وقد سبق أن نبه المفكر اللبناني أمين الريحاني، في الثلاثينات من القرن الماضي، من خطورة الصهيونية حين قال: "إن الصهيونيين هم رواد حلم قائم على الفتوحات، حلم إمبراطورية تساندها الأموال الأمريكية والحراب البريطانية.. إن الصهيونية بمشاريعها المختلفة تناقض الحقوق الوطنية للسكان الأصليين وتلحق بهم أضرارا فادحة.. الصهيونية متحدة فعلينا بالاتحاد. الصهيونية منظمة فعلينا بالتنظيم . الصهيونية مجاهدة فعلينا بالجهاد. الصهيونية شديدة الإيمان فعلينا بإيماننا العربي القومي ، نوحده ونعززه . الصهيونية غنية وما نحن بفقراء . وللصهيونية دعاية كبيرة في العالم فعلينا أن نقاومها بدعاية مثلها".  (م.9 ص94) وللأسف تجاهل نداءه المشايخ والقادة العرب، ولحد الآن لم يشعر المجتمع الدولي بجدية الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية،  رمز العروبة، كأمة، وتاريخ، وحضارة. والتاريخ لا يرحم! وللذكرى فقط،  فالتغييرات التي عرفتها الشعوب الإنسانية، فجرها المواطن العادي، فالشعوب هي التي تصنع التاريخ وليس عظماء الأفراد، والانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى، في بحر الثمانينات من القرن الماضي،  حققت ما عجزت عنه الدبلوماسية العربية والفلسطينية منذ 1948، وتفوقت على الآلة العسكرية الصهيونية إعلاميا، وأعادت الثقة للشعب العربي، وقوت الحضور التفاوضي مع المستعمر الغاصب، وللأسف لم يكن الإعلام العربي، المرئي، في مستوى الرهان لكسب أحداثها سياسيا..  وفي خضم غليان انتفاضة الحجارة بأصابع طفولة بريئة، انسعر جنون المجرم شارون، وزير الدفاع آنذاك،  فقرر علنا "إنه إذا لم يتم اغتيال القيادات فلا أرى أي إمكان حقيقي للتواصل إلى السلام وحتى لبدء عملية السلام"، (م15. ص 12) فخطط سرا لاغتيال القيادات الفلسطينية، و أشهرهم أبو جهاد، منظر الانتفاضة، الذي طالته يد الغدر في قلب تونس في 16/04/ 1988 ..  وفي يوم 28 سبتمبر 2000 يتعمد، وهو رئيس الوزراء، زيارة للمسجد الأقصى الشريف، "مدعيا ممارسته حقا من حقوقه كمواطن إسرائيلي"، فالتهبت شرارة جمرة الانتفاضة من جديد، وأخذ يطبق سياسة التقتيل والترهيب والتدمير، التي وعد بها منتخبيه، والإعلام الغربي يأخذ بتبريراته.. ولوحده، يواصل الشعب المحاصر، لأكثر من سنة، صموده الأسطوري. انتفاضة حاسمة، أن يكون أو لا يكون، أسقطت الحسابات الشارونية، فباءت إسرائيل تحتضر!  ولتحرير فلسطين  والبقاء في النظام العالمي الجديد، تفترض الظرفية الحاسمة على الأنظمة العربية  توفير رؤية استراتيجية تخدم الوحدة العربية، والقضية الفلسطينية، بتحريك الآليات الإعلامية بفكر وطني قومي نزيه وجريء،  والعمل على تفعيل الدور الإعلامي للمنظمات العربية والجمعيات والأحزاب التاريخية في توعية وتعميق الوعي القومي النضالي، بما يكفل القدرة على توحيد قوة عربية،  ترقى وتطلعات الشعب العربي،  تتضافر فيها الجرأة الدبلوماسية والمقاومة المسلحة الباسلة،  والدعاية الإعلامية الموحدة بتصور محدد ورؤية تتفق والأهداف المرسومة. إنها مسؤولية تضامنية مشتركة لأخذ الحق، لأنه لا يعطى، ويستعيد الصوت العربي، الذي لا يزال صداه الأيوبي يزعزع آذان أعداء العرب والإسلام، حضوره الفاعل في المحافل الدولية.
              فالحرب شرسة تمس كل عربي، داخل فلسطين وخارجها، يستعمل فيها الائتلاف الصليبي/ الصهيوني كل وسائل الدمار لإبادة الجنس العربي، ولأن الآلة السياسية والإعلامية العربية لم تحقق الواجب،  فالانتفاضة الشعبية، بالاستنزاف المتواصل الذي تقوم به يوميا، قادرة على هدم الكيان الصهيوني، وتفتيت التحالف الغربي ـ الأمريكي، وزعزعة الجمود العربي، والاستشهاد من أجل فلسطين والعروبة والإسلام.
                                                                    م. ريـاضـي
                                                                    إعلامي
                                                                    الدار البيضاء، 2001
المـراجع:
*م1)د. عبد الوهاب الكيالي، "تاريخ فلسطين الحديث"،  المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثامنة  1981، بيروت  
* م2) بونداريفسكي "سياستان إزاء العالم العربي"  ترجمة خيري الضامن، دار التقدم ، موسكو، 1975.
* م3) "إشكالية العمل الإعلامي بين الثوابت والمعطيات العصرية" سلسلة كتاب الأمة، العدد 64، السنة الثامنة عشرة، 1998.
 * م4)د. مصطفى حجازي، "التخلف الاجتماعي، سيكولوجية الإنسان المقهور"، معهد الإنماء العربي،  الطبعة الرابعة 1986،  بيروت.
* م5)د. هشام شرابي، "مقدمات لدراسات المجتمع العربي"، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة 1991،  بيروت
* م6)ذ. رياض نجيب الريس ،"رياح الشمال، السعودية والخليج في عالم التسعينات"، طبعة رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الثانية ، يوليو 1997، بيروت/لندن 
 * م7)ذ. إبراهيم العابد، "سياسة إسرائيل الخارجية: أهدافها ووسائلها وأدواتها" سلسلة دراسات فلسطينية، عدد 33،  يونيو 1968، بيروت
* م8)ذ. محمد خليفة التونسي، " الخطر اليهودي، بروتوكولات حكماء صهيون" أول ترجمة 1951
* م9)"الإعلام العربي والقضية"،  ملف خاص، مجلة شؤون عربية، شهرية فكرية، وحدة المجلات في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية،  العدد 17، يونيو 1982  
* م10)د. المهدي المنجرة، " الحرب الحضارية الأولى" ، مطبعة النجاح الجديدة ، الطبعة الرابعة  1992 ، الدار البيضاء
* م11)المفكر روجي جارودي، "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، ترجمة جريدة الزمن، الطبعة الثانية 1998، المغرب
* م12)ذ. محمد طلال "الاتصال في الوطن العربي ـ قضايا و مقاربات"، مطبعة النجاح الجديدة 1993، الدار البيضاء
* م13) " الاتصال"  ملف خاص ،سلسلة عالم الفكر، المجلد الحادي عشر،العدد الثاني، يوليو/أغسطس/ سبتمبر 1980 .
* م14)د. مجدي حماد، "الموقف الإفريقي من قضية فلسطين"، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، العدد الأول/ السنة العاشرة ـ مارس 1982 .
* م15) "الاغتيالات بديلا عن الانتخابات"، مجلة الفرسان، السنة 21، العدد 599، السبت 22 يوليو 1989، لندن.



حيرة وجود..

  حيرة وجود .. سمة حورية أسطورية، وعناد نخوة جاهلية، وكبرياء أنثى إنسان، بملامح طفلة غامضة دائمة الحزن والابتسامة، صادفها في حيرة وجود، تا...