lundi 13 juin 2011

!الدبلجة: فن، هوية، واستثمار

!الدبلجة: فن، هوية، واستثمار
قوة تميز العمل المدبلج في حسن اختيار القصة المناسبة للمجتمع، وفي أمانة الترجمة، ومصداقية الدبلجة.

       لم نتساءل مرة إن كان صوت "بيتر فولك"، بطل السلسلة البوليسية المشهورة "كولومبو"، في نسختها الفرنسية، التي قدمت للمشاهد المغربي في بحر السبعينات، هو صوت البطل نفسه، أم استلف اللسان الفرنسي من شخص آخر، كغيره من عمالقة الفن السابع كستيف ماكوين، شارل برونسون، آنتوني كوين، جون وين، كلين استوود، بروس لي، صوفيا لورين.. !؟ أكيد استلف الصوت الفرنسي ليحل مكان صوته الأصلي. هذه العملية تدعى بالدبلجة، ومصطلح الدوبلاج، من أصل فرنسي Doublage، تعني الترجمة الصوتية للعمل الفني، باستبدال اللغة الأصلية بلغة أو لغات بديلة، مسح شامل للأصوات الحوارية الأصلية في العمل الأصلي، وإعادة إنتاج نفس العمل بأصوات ولغات أخرى، لغاية بثه في بلدان لا تتكلم اللغة التي صور بها في الأصل، حتى يتمكن من متابعته وفهمه أكبر عدد من مشاهدي اللغة التي دبلج إليها. وتتم عملية الدبلجة بالنسبة للأعمال الفرانكفونية بالأساس في فرنسا، بلجيكا، وكندا، وتتميز أعمالها بتقنية عالية في دقة تركيب الصوت البديل على الصورة الأصلية، والاستعانة بأشهر الممثلين لتنفيذ عملية الدوبلاج، وخاصة في أفلام الكرتون الموجهة للأطفال، إيمانا بالمسؤولية - فكرية واجتماعية وتاريخية وتربوية - تجاه المشاهد الطفل، رجل الغد القريب..  أما في العالم العربي فلبنان كان السباق إلى فتح باب الدبلجة إلى العربية، وكان الدافع حينها تعويض نقص الإنتاج الدرامي المحلي بإنتاجات قليلة التكلفة، وكانت البداية بدبلجة الرسوم المتحركة في بحر السبعينات، ثم  المسلسلات اللاتينية خلال الثمانينات؛ بعد لبنان تشجعت الأردن ثم سوريا..، وأتقنت بعض مؤسساتها إنتاج أعمال مدبلجة مختلفة الصنف.
ليس الغرض من هذه الورقة استحضار تاريخ الدبلجة، ولا يهم من السباق، وإنما التعريف بهذا الفن، وطرح التجربة المغربية، المولود القديم الجديد، وأفاق نجاحها داخليا، وتحديات فرض الهوية اللغوية في سوق الدبلجة العربية.
الدبلجة  تقنية فنية، وهوية لغوية، واستثمار
       يعتقد الكثيرون أن الدوبلاج  عملية ترجمة واستلاف الصوت فقط، وفي الواقع هي عملية متكاملة ومتماسكة، تضبطها تقنيات فنية ضرورية لإنجاحها كي تظهر وكأنها النسخة الأصلية بالصوت والصورة. فالدبلجة فن صعب من الفنون الحديثة، التي تولد مع ظهور السينما الناطقة، وتطور مع التلفزيون وثورة التكنولوجيا الإعلامية على العموم، حيث تبلورت مهن مختصة بالدبلجة، وأنشأت مؤسسات خاصة بالعمليةDoubleur ، وتطورت آليات الإتقان الفني لضبط تطابق الأصوات المدبلجة مع مشاهد  النسخة الأصلية. فالعملية تحكمها، من جهة، أخلاقيات المهنة، ومن جهة أخرى، قدرات المهارة التقنية، يشمل ذلك أمانة ترجمة النصوص الحوارية، والدقة في اختيار الكلمات، والكفاءة التقنية المتمكنة في المكساج، وتحديد المقاطع الصوتية الملائمة، وحسن اختيار مدير البلاتو، المتعارف عليه دوليا بالمدير الفني، الذي يشرف على مراحل انجاز العملية من البداية إلى النهاية.
بعد التوفيق في اختيار القصة الفيلمية المناسبة للمجتمع، تأتي مرحلة معاينة النسخة الأصلية، وفهم القصة والموضوع، وتركيبة الشخصيات، وعلاقات بعضها ببعض، واستيعاب أبعاد العمل، ثم قراءة النص المترجم، ومقارنته مع النص الأصلي، والموافقة على الترجمة، وبعدها يعمل المدير الفني على اختيار الأصوات البديلة المناسبة، ثم تأتي المرحلة التقنية للدبلجة الصوتية وتطابقها مع النص المصور، تقنية صعبة ودقيقة التركيز، تستلزم توفر مهارات فنية متمكنة. تتم العملية في استوديوهات خاصة، حيث تعرض المادة المصورة، وتخضع عبر مراحل متكاملة لعملية مكساج  الأصوات البديلة، مصاحبة بالموثرات الصوتية الدرامية في النسخة الأصلية؛ وهي المرحلة الأصعب، لأنها تعتمد على ضبط مخارج الحروف والتطابق بين الصوت المسموع وشفتي الممثل في تتابع مشاهد العمل الأصلي. فالدبلجة لا تتوقف عند ترجمة النص الدرامي الأصلي إلى لغة معنية، وإيجاد أشخاص ليقرؤوا النصوص الحوارية المترجمة، وإنما البحث عن صوت الممثل المناسب للشخصية المؤدية في المشهد الأصلي، والشخص الذي يمنح صوته، ممثل موهوب وفنان، على دراية بحرفية العمل الإذاعي، والتلفزيوني والسينمائي، وهذا لا يكفي بل لابد أن يتمتع بالقدرة على التشخيص الصوتي، مما يجعل ضرورة التجربة المسرحية قائمة وملازمة للتكوين الأساسي لشخصيته الفنية. ودور الممثل، الذي يؤدي الدبلجة، لا يتوقف عند قراءة ترجمة ما كتب له من النص الحواري، وإنما يتدخل، إن دعت الضرورة الفنية، لتغيير كلمة وصياغة الحوار  المناسب لحركة  الشفاه ومدة المقطع الحواري في المشهد الأصلي، ولا يكفي أن يمتلك صوتا رنانا، وإنما أن يكون فنانا متمكنا في التعبير الصوتي، والإحساس بالكلمة وموقفها الدرامي ليكشف حالة الممثل في خضم الأحداث الدرامية في العمل الأصلي، فالحوار الصوتي البديل يتقمص شخصية ومشاعر الممثل الأصلي، يتعايش معه في فترته العمرية، وانتمائه الاجتماعي، وتركيبة شخصيته، وعلاقاته مع الشخصيات الأخرى، يعبر عن أحاسيسه وانفعالاته؛ بمعنى آخر، بالصوت يعيش الحالات النفسية للممثل الأصلي، وهذه ليس بالمهمة السهلة.
التجربة المغربية، المحاولة والآفاق
      دخل المغرب في الأشهر الأخيرة، من السنة الماضية، تجربة الدبلجة إلى اللهجة المغربية، ومن الطبيعي أن تثير المحاولة الكثير من الانتقادات، خصوصا وأن لهجتنا، كما يدعي أشقاؤنا في المشرق، صعبة، بل هناك من المغاربة من يشمئز منها، لأن أذناه تعودتا سماع عاميات عربية أخرى، بالخصوص المصرية واللبنانية والسورية والآن الخليجية أيضا، في الوقت الذي ظلت عاميتنا متقوقعة في الحدود الجغرافي للتواصل اليومي الجاف للكلمة. والأعمال التلفزيونية، منذ البدايات، لم تعمل على إنتاج وبلورة عامية تلفزيونية بسيطة، سلسة، ومقبولة؛ فالتمثيليات، أو ما يطلق عليها "سكتشات"، كان ولا يزال، الغرض منها الإضحاك، فكانت تسيء، في مواقف هزلية ساخرة، استعمال العامية لإضحاك الجمهور بعضهم على بعض، إساءة لهجة جهة على حساب لهجة جهة أخرى، إساءة  مست جمهور  الجهات كالفاسي، العروبي، الشلح، الجبلي، وغيرها من تعقيدات العالم المتخلف، الذي ننتمي إليه، فلم تساهم تلك السكتشات في تطوير لغة تلفزيونية نظيفة وسلسة تغزو الآذان والقلوب والعقول المغربية قبل العربية. وذلك غير مستعصي على اللهجة المغربية، لأنها عامية قريبة من اللغة العربية، مشكلتها أنها لم تحظ، على المستوى الحكومات المتعاقبة، بالاهتمام والدعم والترويج لا داخل المغرب ولا خارجه، وتركت في حدود الواقع المعيشي للإنسان المغربي.
مسؤولية ودعم، وتخطيط
      مقارنة مع تكلفة الإنتاج الدرامي المحلي، الدبلجة أقل تكلفة، ودعم التجربة ستنعش مختلف المهن التقنية، المرتبطة بالعملية، مما سيكون له أثر إيجابي في تطوير تقنيات العمل  الفني على مستوى هندسة الصوت والصورة  والتشخيص الصوتي، والإخراج أيضا.. وبصفة عامة على تطوير المهن  المتعلقة بالإنتاج الدرامي التلفزيوني والسينمائي.. تراكم التجارب أكيد سيؤثر إيجابا في تطوير النص الحواري، فبعد ثلاث محاولات، "آنا" و "أين أبي؟" من أمريكا اللاتنية، و"فايدهي" الهندي، يلاحظ أن المادة اللغوية في العمل الثالث أحسن من الثاني، والثاني أحسن من الأول، مع العلم أن  التجربة لاتزل في بداياتها الأولى، وأخذت تستأنس بها نسبة من المشاهدين، وانتقاد التجربة سيساهم في تطور تقنية وفنية المنتوج الدرامي على العموم؛ إنها غيرة المشاهد على لغته الشعبية التلفزيونية، لتفرض وجودها، إلى جانب اللهجات الأخرى، في سوق القنوات العربية.. فمصر الشقيقة، على حد معرفتي، المتواضعة، القريبة من تاريخ الدراما المصرية، لم تضع مخططا لغزو الوطن العربي لغويا، وإنما هناك ظروفا تاريخية وإعلامية ساعدت على تقريب اللغة إلى المشاهد العربي،  حتى اعتاد اللهجة المصرية. نجد في الأساس الأول الراديو ومختلف أغاني أعلام الطرب المصري، ثانيا العروض المسرحية، ثالثا السينما والأعمال التلفزيونية؛ فمثلا على الصعيد السينمائي، كانت الغاية في الأساس دعم الصناعة الجديدة، السينما في بداياتها المصرية، كاستثمار وطني،  مع مرور السنوات هيمنت على السوق العربية، السينمائية والتلفزيونية، كصناعة مصرية الجنسية، أما انتشار العامية المصرية فلم يأت كتمرة تخطيط استراتيجي، وضع في الأساس، من أجل ذلك. وكذلك مع الدبلجة، كصناعة حديثة، لم تكن عند الإخوان اللبنانيين الهوية اللغوية هاجسا في البداية، وإنما لسد نقص في الإنتاج المحلي، ونجحت التجربة، وباتت استثمارا تجاريا مربحا، وهيمنت على سوق الدبلجة، مما دفع  الأردن وسوريا إلى دخول التجربة، وأصبحت اللهجة السورية واللبنانية التلفزيونية مألوفة لدى المشاهد العربي، في حين تركوا اللغة العربية الفصحى للأعمال التاريخية.
محاولة الانطلاق إلى فضاء البيت العربي
       كذلك نحن المغاربة، لا يجب أن نظل سلبيين ومستهلكين لإنتاجات ولهجات الغير، تحت ذريعة لن تتجاوز الدبلجة المغربية الاستهلاك المحلي، وبالتالي فالعملية مكلفة وغير مربحة، لكن بهذه الخطوة بدأ الاستثمار الفعلي في المشرق، وبعد سنوات من العمل الشاق والتضحية انتعشت تجارة الدبلجة. علينا أن نصنع لغتنا التلفزيونية، أن ننقحها ونطورها كلغة تلفزيونية بسيطة، سلسلة، مفهومة، يرتاح  لها المشاهد المغربي، من شماله إلى جنوبه، قبل المشاهد العربي من شرقه إلى غربه.
وتميز العمل المدبلج يشترط حسن اختيار القصة المناسبة للمجتمع، وأمانة الترجمة، ومصداقية الدبلجة؛ وتحقيق هذا التميز يستلزم التضحية، والجهد الشاق، والمسؤولية  المؤسساتية بين  التي تمول عملية الدبلجة، والتي تقوم بتنفيذها، والوزارة الوصية، بدعم حكومي، في وضع تخطيط استراتيجي لترويج المنتوج الدرامي الوطني، وتعزيز الهوية اللغوية التلفزيونية، عربية كانت أم أمازيغية، في فضاء البيت الوطني والإقليمي والعربي، وأنا على يقين، رغم صعوبة التحدي، أنه، بعد 5 أو 10 أو 15 سنة، ستثير اللهجة المغربية اهتمام المشاهد العربي، وتفرض مكانتها في سوق الأعمال المدبلجة.


                                                                محمد رياضي
                                                                 إعلامي
                                                                 الدار البيضاء، يونيو 2011


حيرة وجود..

  حيرة وجود .. سمة حورية أسطورية، وعناد نخوة جاهلية، وكبرياء أنثى إنسان، بملامح طفلة غامضة دائمة الحزن والابتسامة، صادفها في حيرة وجود، تا...