mardi 20 décembre 2011

2 !الدراما التلفزيونية المغربية

الإهداء:
إلى روح المخرج أحمد بوعناني، محمد الركاب، أحمد المسناوي، محمد عصفور،.. وتحية تقدير إلى الإخراج الراقي والمسؤول، إلى المخرج الإنسان، الفنان المبدع الجيلالي فرحاتي، عبد الرحمان التازي، فريدة بليزيد، كمال كمال، محمد إسماعيل، عبد الكريم الدرقاوي، جاهدي عزيز، جمال بالمجدوب، جمال السويسي، نور الدين لخماري، محمد مفتكر،..وغيرهم من المبدعين، رغم التهميش والإبعاد عن الشاشة، يساهمون، بعناء وجهد، في تكوين الشخصية الإخراجية المغربية الراقية.

أوراق:2
الدراما التلفزيونية المغربية  !
الورقة 2:  الإخراج: ثقافة، وعي، خيال، رؤية، إبداع، ومسؤولية!

           بات الفيلم التلفزيوني، كالسينمائي، شريطة احترام خصوصية المشهد البيتي والعائلي، إحدى وسائل التعبير الفكري والفلسفي والترفيهي. أتكلم عن الفيلم وليس التمثيلية التلفزيونية، دراما يتمازج فيها الخيال بالواقع، تخاطب، بأسلوب مرئي، ذهنية وأحاسيس المتلقي، العادي والمثقف والناقد؛ جمهور متباين المستويات والنوعيات والأذواق والثقافات، ومتفاوت قدرات الفهم والوعي، (أقصد البقية من المشاهدين (أقل من 50%) الذين لم يُنفوا بعد، بأعينهم وقلوبهم وعقولهم، إلى الفضائيات الغربية وبعض العربية)،  جمهور مزعج وغامض،  تلقائي لكن ليس بساذج، جمهور وطني حتى الموت، يضحي، يسامح، يصالح، يشجع، يغار، وينفر. وكم هي عديدة الأفلام الدرامية التي قدمها التلفزيون المغربي، منذ بدء مبادرة تشجيع المنتوج الوطني، مع مطلع القرن الحالي، وتفاوتت القيمة الفنية من فيلم لآخر، بين السيناريو المصور التافه، والإخراج الهاوي البسيط، وندرة الإخراج الاحترافي المركب. بطبيعة الحال قليلة هي الأفلام المغربية المقنعة بحبكتها الدرامية، والمثيرة بسحر جمالية الصورة، وبراعة بلاغة التصوير الإيحائي، ذات الحمولة الفكرية والفلسفية؛ فغالبية الأفلام سطحية وتافهة، خالية من أي جهد إبداعي، تفتقر إلى جمالية الصورة، وقوة المعالجة الدرامية، تنتمي إلى تفاهة السرد المرئي، مما يدفعنا إلى التساؤل عن السبب: هل ضعف النص الدرامي المكتوب؟ أم غياب الأسلوب الإخراجي؟ أم بسبب فوضى التراضي والزبونية التي طالت الإخراج والإنتاج؟ أم اللامبالاة القائمين على الدراما التلفزيونية؟  أم لميوعة الذوق الفني لدى المشاهد؟ أم أن هناك عوامل أخرى تساهم في إعاقة التفاعل بين المتلقي والدراما التلفزيونية الوطنية؟
           لكن، بعضا، من أصحاب تفاهة السرد المرئي، يُحسبون، لوقاحة وفوضوية المجال، على الإخراج، يصرون على تحميل المسؤولية لضعف السيناريو، وإذا قبلنا بهذا الاتهام المتسلط، لماذا يقبل هذا المخرج "النابغة" بسيناريو يعاني في الأساس من خلل في تقنية المعالجة الدرامية؟ وهل يتوقف الإخراج عند، هذا العبقري، فقط في تصوير ما جاء في النص الأصلي؟ أم عليه تقويمه إلى مستوى ما يثير البصر والبصيرة؟

ما الإخراج؟
           الإخراج فن وإنجاز سمعي بصري، يكشف مدى الجهد الفني والحس الإبداعي للمخرج في كيفية المعالجة الدرامية، وبلاغة تعبيرية التصوير، بدلالاتها المباشرة وغير المباشرة؛ إبداع مسؤول يعكس رؤية فكرية وأسلوب فني خاص بالمخرج، يرتبط بشكل المعالجة أكثر من ارتباطه بالمضمون؛ إنه يعيد إنتاج السيناريو، بإعادة سياق التجربة المكتوبة على الورق إلى تجربة فنية سمعية بصرية على الشاشة، تعتمد المخيلة الجمالية والبلاغية، ويتفاعل معها المتلقي بجوارحه وكيانه. وتتجلى جاذبية الفيلم في أسلوب المعالجة أكثر ما بالقصة، كيف تحكى؟ مما يؤكد قوة فاعلية تأثير اللغة المرئية في المتلقي، فالمشاهد يمكن أن يتجاوب مع فيلم  وينفر من آخر، بالرغم تناولهما نفس القصة، فالإثارة وإمكانية التواصل يخلقها أسلوب المعالجة التصويرية، الجامع بين الإقناع، والإثارة، والجاذبية والإمتاع، مما يقوي مقولة "الفيلم ليس مشهدا، إنه أسلوب"؛ ولا أشير إلى التصوير البانورامي، وتسجيل المشاهد والأحداث، كما كان الحال عند ظهور آلة التصوير مع الأخوين لوميير، قبل أكثر من قرن، مجرد مشاهد تسجيلية  خالية من أي إبداع فني، وإنما  أقصد اللغة  المرئية  المشحونة بذاتية وموضوعية المخرج، تعكس همومه، هواجسه، وأحلامه. فالإبداع الفني للفيلم، في وقتنا الراهن، يقاس بأسلوب المعالجة وبلاغة الصورة، التي تجاوزت الوظيفة التقليدية، حيث أصبحت تعتمد  على الطاقة الخيالية والتخييلية للمخرج، مهما اختلفت النوعية الفيلمية، من واقعي، خيالي، تاريخي، وفانتازي؛ باتت "تقاس قيمة الصورة بمدى هالتها التخييلية"، على حد تعبير باشلار غاستون/ Gaston Bachelard ، والمخرج هو مبدع هالتها الفنية.

ما المخرج؟
           المخرج، فنان يتوفر على طاقة خيالية في الإبداع وخلق الأثر النفسي، فنان يمتلك مؤهلات فكرية، ويتمتع بمهارات إبداعية، ويكتسب ثقافة فنية متنوعة، ويتميز بوعي عميق بذاته ومسؤوليته الفنية، ويؤمن برسالته الاجتماعية والإنسانية. فنان مدرك لدوره  الخلاق في إبداع المشهد المعبر، وخلق جمالية اللغة التصويرية، كالمخرج المبدع مصطفى العقاد، صلاح أبو سيف، يوسف شاهين، نجدت إسماعيل آنزور، علي حاثم..؛ مخرجون متمكنون من استخدام فنية التأثير وبلاغة التصوير؛ فنانون موهوبون بالفطرة، مثقفون بالطموح، ومبدعون بالتكوين المتجدد، وخبرة الممارسة في إبداع الرؤية الحسية البصرية. طاقات إبداعية، وقناعات  فكرية وفنية في اتخاذ الموقف، وتدقيق الاختيار، وتحديد الهدف الفني، وتسخير الخبرة المهنية لتمرير الفكرة بالشكل البصري الملائم لطبيعة النص المختار. يقول المخرج البريطاني سام ماندس/ Sam Mendes:

« Les films qui m’ont influencé sont ceux qui racontent leur histoire plus par l’image que par les mots. »
         
  المخرج وحسن الاختيارات:
          المخرج فنان يروي سيناريو قصة بلغة البصر، ولكي ينجح في الخلق والإبداع في منح الصورة لغة تعبيرية والتأثير في دواخل المتلقي، العاطفية والعقلية، يستوجب عليه أولا أن يحسن اختيار النص المرشح ليتحول إلى فيلم، وثانيا اختيار أسلوب المعالجة الملائم لطبيعة السيناريو المختار، وثالثا اختيار طاقم عمل مناسب لطبيعة السيناريو، فكلما كان المخرج واعيا بدوره الفني والإبداعي، كلما كان دقيقا في اختيار طاقم عمله، وفي اختيار التقنيات المسخرة في التأثير وخلق التواصل الروحي والفكري مع المتلقي. وتمر عملية إنجاز الفيلم عبر ثلاث مراحل متلاحقة ومتكاملة، بدء من مرحلة ما قبل الإنتاج، ما قبل التصوير، Preproduction ، تليها مرحلة الإنتاج / مرحلة التصوير Production ، ثم مرحلة ما بعد التصوير، مرحلة المونتاج Postproduction. وكل مرحلة مستقلة بذاتها، لكنها متكاملة في تتابع إنجاز  العمل الفيلمي. فنجاح الفيلم يرتكز على اختيار نص جيد، وفهم أفكاره، وتحديد الرؤية الدرامية، وضبط توجيه الممثلين، وإدارة التصوير، وهندسة الصوت، وتصميم المناظر، والتوظيف الدرامي للماكياج، والزمان، والمكان، والموسيقى، والإضاءة، ومدى الذكاء في الاستعانة، عند  الضرورة الدرامية، بالمؤثرات الصوتية والمرئية المناسبة، وأيضا التدقيق في اختيار المونتاج السليم المساير للرؤية الدرامية فنيا وفكريا، باعتباره، المونتاج،  البناء اللغوي لتتابع وتماسك المشاهد، يقول في ذلك  المخرج الروسي  في . آي. بودوفكين " إن أساس فن الفيلم هو المونتاج" ، ويؤكد المخرج الفرنسي السويسري  جون لوك جودار/ Jean-Luc Godard:
  
« Le sens de mes films vient toujours au montage, quoi qu’il arrive. »

          فحسن الاختيار أساسي، ضروري، ودقيق، تتحكم فيه قناعات المخرج الذاتية والموضوعية، بدء من اختيار النص وفهمه، واستيعاب أبعاد شخصياته، ومضامينه وأفكاره، تم تحويله إلى سيناريو الإخراج التنفيذي، سيناريو تقني يعتمده المخرج في مرحلة التصوير، Découpage؛  العملية التي تظهر براعة حرفية المخرج، أو لنقل أسلوبه في تصميم وتحديد حجم اللقطات، زوايا التصوير، وحركات الكاميرا، والمونتاج. ولكي يضمن السيطرة الكاملة على كل صغيرة وكبيرة أثناء انجاز العمل، عبر مراحله الثلاثة، فالمخرج في حاجة إلى مساعد مخرج أول وأكثر، وملاحظ أو مراقب السيناريو تحت إشرافه (تخصص مهني غير موجود في واقع الإنتاج الدرامي التلفزيوني). خلية عمل متكاملة كالجسد الواحد، وإذا أهمل أي عضو تداعى سائر الجسد، وأي خلل جزئي في الفيلم  يؤدي إلى الغموض ونفور المشاهد منه. يقول المخرج الأمريكي سبايك جونز/ Spike Jonze:

 
« En tant que réalisateur, vous devez être comme un chien de garde sur le tournage et vous devez être capable de garder à l’esprit la totalité du scénario. Si vous manquez un détail, c’est foutu. »

مسؤولية الاختيار والعرض:
        هل تتوفر الأعمال الدرامية التلفزيونية المغربية على مصداقية المعالجة الدرامية، وجاذبية السرد التصويري الإيحائي والمؤثر؟ بطبيعة الحال، يستحي المشاهد أن يرد بالإيجاب المطلق على هذا السؤال، فغالبية الأعمال، التي عرضت على الشاشة المغربية، تفتقد إلى مصداقية المعالجة الدرامية والمقومات الفنية الأساسية في خلق متعة المشاهدة، فيجد المشاهد المغربي، قبل غيره، صعوبة في التواصل معها، بكيانه العاطفي والذهني، كأنها لم تنتجها مخيلة مخرج. وليس لنا أن نلوم السيناريو، ونحمله وزر ضعف وأخطاء وفشل من يفتقد طاقة الإبداع، المرتبطة بالمستوى الفكري والثقافي، فما دام أن المخرج اختار النص الأصلي، وعمل على تحويله إلى فيلم، فالسيناريو بريء من التهم التي تُسقط  عليه عند عرضه، فالمسؤول الرئيسي هو المخرج. نعم هو المخرج، فتكوينه الأكاديمي يرتبط بدراسة السيناريو والحوار وإدارة الممثل، فلماذا يقبل النص إن كان يعاني من خلل ما؟ وما دوره  كمخرج؟ هل يتوقف فقط عند تصوير ما جاء في النص الأصلي؟ أم أن هناك معالجة فنية ورؤية بلاغية تخص المخرج؟   فطبيعة علاقة السيناريو والإخراج تفرضها حتمية ارتباط الواحد بالآخر، فالسيناريو هو الأصل المكتوب، والإخراج هو الهيئة البصرية للنص المكتوب، ارتباط وجودي تكاملي، فالأول مرتبط برؤية وأسلوب وإبداع الثاني، والثاني مرتبط بطبيعة مادة الأول. وهذا لا يعني أن الإخراج مهنة سهلة، تتوقف فقط عند  تصوير ما جاء في النص المكتوب الأصلي، وإنما إبداع بلاغي مرئي، تحدده الرؤية الإخراجية، وتساهم في تحقيقه اختصاصات فنية وتقنية تحت إشراف مخرج مسؤول، فنان مبدع، متمكن، وإنسان يؤمن بقناعاته الفكرية والفنية. يقول المخرج الأمريكي كورتيس هانسونCurtis Hanson/  :

 « Vous pouvez l’habiller mais on voit toujours qu’un film est bon quand le scénario l’est. »
         
         إذن علينا أن نسلم بحقيقة ثابتة إن الإخراج عملية تحويل النص المكتوب الجيد إلى عرض بصري جيد، لغة بصرية تجمع بين الإحساس الفني والحرفية التقنية، تعكس رؤية درامية محددة، ملائمة لطبيعة النص، ويثقن صناعتها بصريا فنان، موهوب، مثقف، طموح، جريء ومسؤول، على دراية بتقنيات الكتابة والمعالجة الدرامية، وقادر على ترجمة المشهد المكتوب إلى بلاغة فنية سمعية بصرية مؤثرة، بلغة جمالية مفعمة بالحركة والحياة وإشارات إيحائية، ذات بعد اجتماعي وإنساني، يتفاعل معها المشاهد، نفسيا وفكريا، مهما كانت جنسيته. يقول المخرج البريطاني شارلي شابلن/ Charlie Chaplin :

« Ce n’est pas la réalité qui compte dans un film mais ce que l’imagination peut en faire »

فاقد الشيء لا يعطيه:
         الفيلم هو الإخراج، والإخراج  هو أسلوب خاص بالمخرج، والأسلوب ليس قالبا حرفيا جامدا، بل إنه موقف فكري، وحس جمالي، وفن بلاغي إيحائي يؤثث الصورة بجزئياتها المكونة للتركيبة والتتابع ألمشهدي، يتماشى والرؤية الفكرية والفلسفية للمخرج.  ومن يفتقد الثقافة الفنية، والمهارة الخيالية، والخبرة المهنية، يفتقر إلى القدرة على إبداع البلاغة والأثر الفني، وبالتالي لا يتفاعل المشاهد مع تفاهته عند عرضها على الشاشة، وبعدها يتحامل هذا الشخص البئيس، فكريا وفنيا، على السيناريو، ويحمله مسؤولية سلبياته الفنية، والسيناريو، في هذه الحالة، بريء من ذلك براءة الذئب من دم يوسف. ومن وقاحة بعض بؤساء الفكر والثقافة، الذين تشفق عليهم وبسخاء، في أحايين متعددة، الشاشة المغربية، يختفون وراء أزمة السيناريو، وهي أزمة عالمية ولا تتوقف على المغرب وحده، يدعون بأنهم يعانون كثيرا في إيجاد النص الجيد، ومنهم من يتباهى بعناء السفر وأخذ الفكرة  إلى فرنسا، لكي يخطط له أحد أبناء موليير سيناريو خاصا ببيئة الحياة المغربية، ثم يعود إلى المغرب لتصويره. يا لبلادة التفكير! إن كانت بهذه البساطة، أليس من الأحسن أن  يتصل السيناريست نفسه، صاحب الفكرة، مباشرة بمخرج مولييري، أكيد سيوصل فكرته أكثر من المخرج الوسيط، الفقير فكريا، مع الاحترام والتقدير لمخرجين مغاربة لهم بصمتهم الإبداعية في التلفزيون والسينما، ذكرت بعضهم في إهداء المقدمة. فبالإضافة إلى الموهبة، والخبرة الحرفية، هناك الضمير المهني الذي يجب أن يَتَخلق به المخرج في ممارسته الإبداعية، وعندما تُفتقد الموهبة، ويُستغنى عن الاحترام الذاتي شيء طبيعي أن تأتي أعمال الفكر الفقير، سطحية وتافهة، فنيا وروحيا وفكريا، ومملة بصريا، ويبررون تفاهتهم بأزمة السيناريو، أو بضعف الإمكانيات المادية في العملية الإنتاجية. وأنا أقول، ولست وحدي، فاقد الشيء لا يعطيه، ولو في بساطة الأبيض والأسود؛ وأي بليد هذا يدعي أن تعبيرية الأبيض والأسود سهلة التحقيق؟
          نعم، هناك أعمال مغربية تفاعل معها الجمهور لمخرجين متمكنين، لا يحضون بعدالة حق دعم المنتوج الوطني، ورغم التهميش والظروف الصعبة، يعملون ما باستطاعتهم للمساهمة في تكوين وتثبيت معالم الشخصية الإخراجية المغربية، وما يجمع هؤلاء المخرجون،  الموهبة، الثقافة، الإبداع، وأيضا التكوين المتجدد، وخبرة الممارسة، والأهم الجرأة  واحترام الذات والجمهور. يتقنون، رغم اختلاف تكوينهم الدراسي، تقنية الكتابة، وفنية المعالجة الدرامية، وإدارة التصوير، ولغة التوليف.. مهارات تقنية وفنية تستقل بخصوصياتها، والمخرج، الفنان المسؤول، ملم بها، ويقدر أهميتها، لذلك يتحمل مسؤولية الإشراف على الفريق الفني والتقني في عملية انجاز الإبداع الفيلمي.
          على المتطفل على الإخراج، من القدامى والجدد، أن يدرك أن العمل عند عرضه على الجمهور تجاوز مسؤولية السيناريست، وعليه أن لا يتناسى أن عملية إنجاز فيلم، من البداية إلى النهاية، تتم تحت إشراف المخرج، في حدود الإمكانات المادية الممنوحة، لكن هذا لا يبرر ضعف الجانب الإبداعي، أو أي خلل في السيناريو الأصلي عند عرض الفيلم على الشاشة، فالمخرج هو المسؤول الرئيسي عن الشكل والمضمون، مهما اختلفت المواقف من المضمون والأفكار، يقول الكاتب الأمريكي آلمر رايس "إن سيطرة الفنان على مادته هي التي تجعل منه فنانا"، عدا ذلك إنه هراء، وتهافت المتطفلين على الإخراج والفن عموما.

سؤال يطرح نفسه:
          ماذا عن مسؤولية الإنتاج في أزمة الإبداع الفيلمي المغربي؟
                                                                                 محمد رياضي
                                                                            البيضاء، دجنبر 2011














     
 
         

mercredi 28 septembre 2011

EDGE OF DESPAIR! !حافة اليأس

   إهداء: إلى أرواح جرائم الاختفاء القسري، ضحايا غياهب الظلم القاسي،
وتحية إلى الذين فضلوا المعاناة على موت الإحساس الوطني في عهد القهر الصعب،
وفي عهد المصالحة، رفضوا الاستغناء على حساب بطولات وهمية.

حافة اليأس!

بيت بسيط، يملأ فضاءه هدير ناعورة الحرمان، أركانه معبقة برائحة الجوع، لفحت حرارة العوز صباغة الجدران وجلد ساكنيه. الفقر يأسر العائلة، ويطبق على أنفاسها، يخنقها بقبضته الخشنة، ليستدرج أفرادها إلى المساومة والخطيئة؛ يمتعض بعضهم من كفره، وظلم ما يقترفه في حقهم، فيعقد العزم على ممارسة تسلطه القاسي، ويسلبهم، بلا رحمة، أمال الانفلات من مخالبه المعقوفة.

 عبد الله، أحد أبنائها، قليل الشكوى وطباعه هادئة، من حين لآخر،  تخونه مسحة حزن، تفضح ما يعتلج في صدره، ويكابر كي لا يفقد هدوءه، ويؤسر اسمه في سجل المغضوب عليهم؛ سجل أحلام اليقظة، يضم روايات ألف ليلة وليلة غريبة الأطوار، ضحاياها لم تستلطفهم أهواء شهريار، فدبرت لهم حيلا، يصعب تخيلها.
في لحظات السكون والمنام، وقبيل زغرودة ديكه العجيب، تُختطف أحلام مزعجة، وتجهض في جحور مجهولة، وأمال بسيطة توأد في مهود موقوتة، قبل بزوغ أصباح الليالي.. وتنوعت الحكايات.. قيل.. وقيل .. وقيل..
وقيل.. توصل شاب في مقتبل العمر، على حين غرة منه، بدعوة للالتحاق بإحدى الإدارات المركزية في العاصمة الرباط،  غمرت الشاب الفرحة قلبه بالوظيفة التي هوت عليه فجأة، من حيت لا يدري، بعد عناد شاق، وابتهجت أسارير أسرته بالهبة السماوية.
في اليوم الموالي، بحرارة حضن أهله، وبسعادة عارمة ودع الواحد تلو الواحد، وتوجه إلى محطة الحافلات المتواجدة آنذاك في درب بن جدية، وسط الغولة البيضاء؛ جحيم فوضى وتلوث خانق، ضجيج محركات الحافلات، عويل الباعة، أنين التسول الممتهن، إشارات عيون محترفي رياضة الأصابع، وصياح الوسطاء، وجوه مقهورة، تتطفل على المسافرين، عندما يستوقفك أحدهم، لا تدري أهو وسيط أم لص سفاح، تغزوك نظرات تلمع فيها لهفة الاقتناص، واختلاس عرق الفقير واليتيم والأرملة، فيلفحك شعور الاحتراس، كأنك أمام أخطر المجرمين.
ساق أحدهم الشاب إلى حافلة متوجهة إلى الرباط، مؤكدا له، بقسم اليمين، أنها ستغادر المحطة في ثوان معدودة؛ اختار الشاب مقعدا داخل الحافلة، وقبل أن تتحرك العجلات بنصف ساعة وأكثر، رفرفت به تخيلاته بعيدا، طارت به إلى الفضاء الفسيح، عاش حالة استرخاء سعيدة في زمن لم يأت بعد، رأى نفسه أسعد شاب في العالم، وفي الطريق صاح ديك شهريار ، هذه المرة، في عز النهار،  فارتطمت أحلام الشاب على الأرض، واختفى عن الأنظار..
بعد أيام، أشاعت أطياف شهود عيان قصصا عن الشاب المختفي؛ حكايات تختلف في الوصف وطريقة ألحكي، كل راو تفنن في سردها بهاجس خاص، لكن كل الروايات تتفق في الوقائع والاختفاء، مفادها أن حاجزا أمنيا أوقف الحافلة، صعد شخصان عديما الإحساس، تفحصا بنظرات آلية وجوه الركاب؛ نظرات مقطبة الجبين تخترق محاجر عيون الركاب كأنها ماسحة الضوء تبحث عن سر هارب؛ ارتعشت مفاصل الحافلة، وانتاب المسافرين الارتباك والخوف، وساد صمت ثقيل داخل الحافلة، وتسارعت دقات قلوب الركاب، تنبض وكأنها قلب واحد، ونظراتهم تستقصي حل اللغز الغامض. توقفت العيون الماسحة عند الحالم، الذي بدا من الواضح أنه لا يملك فكرة عما يحصل، تقدم  إليه الآليان وطلب منه أحدهما بطاقته، بسرعة ودون تردد، والابتسامة تعلو محياه، مدها الشاب إليه، رمق صاحبه بنظرة، وأمراه بالنزول. وببراءة طفل ساذج صار بينهما، لا يدري ما ينتظره، ربما اعتقد حينها أن هناك حفلا رسميا احتفاء بقدوم الموظف الجديد. وبتثاقل تحركت الحافلة، وهي تحتبس في صدرها شحنة من الخوف، وبعد لحيظات انفرجت الطريق أمامها، وتعجلت هاربة من صاعقة وشيكة الانفجار؛ ومنذ ذلك الحين، لم يظهر للحالم  أثر.. وتنوعت الحكايات..
منذ صغره، كان عبد الله يحب القراءة الحرة، كنا نتقاسم لهفة القراءة، تلقائيا، ودون تأثير أحد، تعلم لغة المستعمر من قصص مصورة رخيصة كروديو، كيوي، زومبلا.. كان يستعيرها من بائع "عباد الشمس" القريب من البيت.. بعد أعوام، لم تعد تروي ظمأه، فأقبل بنهم على ابتلاع القصص الفرنسية بغية إتقان لغة موليير، وجد فيها ضالته، وتميزه اللغوي، لم يمل من التكرار على مسامعي:
"إنها لغة العصر، يا صديقي محمد، لسان الحاضر والمستقبل..  مكّنت أتباعها من زمام الأمور بعد رحيل آخر جنود بونابارت، فجعلوها معيارا لاجتياز المعابر، واختراق الأبواب.."
"إنك تهدي..اللغة لا علاقة لها بذلك.."
بالنسبة له، لغة موليير وسيلة ومفتاح الفرج، كل الفروج، فتعود أن يفكر بها، ويخطط بها خواطره ومناجاته.. وينسج ملامح الحبيبة التي لم يلتق بها أبدا..
خلال سنوات الدراسة، لفه شعور التفوق والامتياز، وبحماس عارم عاند اليأس لينال جوازات المرور السنوية،  لعله يتمكن من تخليص إخوته من سطوة الفقر، غالبيتهم عصافير صغيرة، تزقزق وترمق فراغ وكرها البئيس، تترقب معاش الوالد، نسيم عابر،  يلطف الأجواء، ويخفف من قيظ الحرمان، خلال فصل ربيعي مضطرب الأجواء، يدوم أسبوعا واحدا كل ثلاثة أشهر. وتستمر المعاناة، ويزداد الفقر تعنتا وبطشا، وتزحف الديون، وتتراكم ككثبان رملية، تبتلع الأخضر واليابس، فشمرت الوالدة عن ساعديها لتصد التصحر عن صغارها، رضيت المسكينة بالقسمة والنصيب، وتعايشت مع البؤس الشرس، رغم مرض السكري الذي ينخر دمها رويدا رويدا، وغالبا ما كانت تردد علينا، وبقناعة من استسلمت لحالها، وهي توقع ابتسامة باهتة على ثغرها:
- "لا تنصاعا لليأس، جاهدا واجتهدا لتمتطيا صهوة الشهادة الكبرى!!"
 براءتنا كانت أصلب من الجوع، فلازمنا الفقر دون تدمر واستياء، وسارت السنون مسرعة، ونما وعينا بأبعاد الكلمات، وقناعة الموقف، فتوغلت فينا هموم الواقع المتعدد الأقنعة، الممتلئ بالصراخ، والهيجان، والزفرات الملتهبة..
في الباكلوريا، مع بداية الثمانينات، تأزمت أوضاعه الصحية في فترات متتالية، أثرت سلبا على امتحانات الدورة الأولى والثانية، لم يستسغ رسوبه، فخمدت فيه رغبة التحدي، وبدت حياته لا معنى لها، لكن مضايقة التصحر حتم عليه منازلة القدر القاسي، وبات من الضروري خوض غمار مباريات، أعلن عنها وقتها على صفحات بعض الجرائد الوطنية لولوج إحدى الوزارات، شاءت الصدف أن تكون وزارة الرعب، سيدة الوزارات الرهيبة. اضطرب وتحرك قلبه للإعلان، واجتاحته ثقة عمياء بالنجاح وكسب الرهان، فأكثر المواد بالفرنسية، وعربيته مقبولة، وثقافته واسعة مقارنة بأقرانه..
 تحقق المبتغى، وتم قبوله في مدرسة التكوين التابعة للوزارة الحديدية، ومن أجل المصاريف الأولية،  استطاع الوالدان أن ينتزعا من عمق الفاقة بعض الدراهم، لاستثمارها في هذا المشروع، لعله يثمر، ويخفف من القهر الصعب في المستقبل القريب، يطول انتظاره عامين!
في فصله الدراسي الجديد، فوجئ عبد الله ببعض زملاء الدراسة، المستويات السابقة، وجوه ألفت الخمول والكسل، تعرفه جيدا، وتخجل منه، ومنها من تمقته غيرة لتفوقه، لا تجيد العربية وبالأحرى الفرنسية، لكنها تؤمن بالخضوع والتملق، ثقافة جيل السياسة الجديدة، وقد استطاعت أن تسلب البساط من تحت مؤخرات مستحقيها في ظروف خفية؛ تبادر إلى ذهنه السؤال، ولم ينبش عن الجواب، ليتفادى نعته بالحاسد الحقود، إيمانا منه أن الأيام كفيلة بغربلة النبهاء منهم،  وبنبرة ازدراء قال:
-         "لا أعتقد أنهم سيذهبون بعيدا."
وبجفاء رددت عليه:
-         "كل شيء ممكن في سوق المقايضة !"
وتمضي الشهور، لم تستطع الحياة غوايته، وإزاغته عن حلمه المعتقل في زمن لم يحن بعد، فكره مشغول بمحاولة التسلل إلى المستقبل القريب، بعد عامين؛ نسي الجوع، وأطلق عنان خياله يسابق الزمن؛ من حين لآخر، ترتطم سذاجته على جدار الواقع المعقد، وتندثر بكاملها، لكن وطأة الرغبة الجامحة تجمع أشلاء أحلامه، ويرممها بنفس جديد، قلبه ينبض بالعناد، مهووس ب "متى تنتهي السنتان؟"، مدة التكوين، ويقفز الحاجز، لتضمه سيدة الوزارات إلى أحضانها، وينتقم لأيام البؤس والشقاء والتصحر.
أما أنا فاخترت الإبحار في عالم شيكسبير، ونلتقي، في كل مساء، بعد العشاء، نقضي ساعات طويلة في الطريق، المجاورة لمقبرة سيدي عثمان بالبيضاء، كانت مهملة آنذاك، شبه خاوية إلا من نباح الكلاب، ومواء القطط، وهراء السكارى، وعيون ماكرة التربص في الظلام، وأشباح مثلنا، هنا وهناك، فرادى، مثنى وثلاثا.. سلمت أقدامها للطريق، تعد الخطوات ذهابا وجيئة، تشق طريق الأمل تحت أضواء مصابيح خافتة تبعث اليأس والنفور. نمشي.. نمشي.. ونتوقف تارة، ونتجادل تارة أخرى..  يطول مشينا، ويطول جدالنا، ولا نفترق إلا في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي..
 تجربتي الجامعية شابها إرهاب مبيت،كاد أن يودي بحياتي داخل إحدى الحفر المنعزلة في أعماق الأرض، تتعانق فيها الظلمة، البرودة، الغموض، وصراخ النزلاء.. انكمشت داخل الصمت، ونفدت بجلدي، وهرولت مذعورا كالمطارد من تنين أسود مسعور من رؤيتي، حاولت ما مرة إثبات براءتي، وفي كل مرة أجد نفسي معلقا بين السماء والأرض، أنتظر من ينتشلني من مصير رهيب، أكيد، أيادي الشر تتحرك في الخفاء، وتعيق حريتي الذهنية!! وهامت بي خطواتي في اتجاهات مختلفة، أراوغ شياطين التصيد والانقضاض على الضحايا، وانصهرت في الزحام، أمارس عنادي الخفي، أبحث عن أحلامي المضطهدة..
 مع توالي الأيام، طغت أيادي الشر في الدهاليز، وانتشرت أصابع الخطيئة، فأرخت بضلالها الخانقة، ونادرا ما ألتقي بمن استعصى على الشر ترويضه، من مظهره البسيط، وسلوكه المتواضع، يتضح لملاقيه أنه محاصر في درج مكتب أحد حفدة أبي لهب،  يضرب العنف في عمقه، ولم يستسلم!
إيمانا بنصيحة الوالدة، في صمت، تحملت، أنا وصديقي عبد الله، خبث أيادي الشر، صعقاتها، ابتزازها، واستغفالها لنا؛ مع توالي حالات القهر أخذ النفور يتفاقم في دواخلنا، وتعايشنا مع استبداد القهر الصعب، فعلت قهقهاتنا، وسخرنا من الحياة، من الإنسان، من القدر، ومن آلهة كل الأزمنة..
حلت الامتحانات، وعلى عبد الله أن يجتاز المعبر الحدودي بين زمان وزمان، وكل ما يشغله كسب تأشيرة المرور، فقد علم أن من عادة مدرسة الوزارة القوية أن تعين الناجحين بأعلى النقط في المراكز التي وقعوا عليها في استماراتهم. أتذكر غبطة صديقي بالنقطة العالية التي نالها، وراح في سبات عميق، وبصعوبة أيقظته مرات، وددت إقناعه على تغيير موقفه، لكن دون جدوى، ولا يزال صدى دردشاتنا يخترق مخيلتي:
-"عليك أن تبحث في أمر التعيين، يا أخي عبد الله!"
-"أنا واثق بأنني سأعين في إحدى المراكز التي اخترتها في المدينة الأم."
-"لا تحلم، فأناملهم الخبيثة لا ترحم أمثالك! أريد أن أقول أمثالنا!"
وبحزم وثقة لا حدود لها:
-"لماذا ؟ لماذا؟ نحن لم نقترف أي إثم يذكر! لا! لا يستطيعون، فالنقطة هي المقياس، ولدي أعلى نقطة، صدقني يا أخي محمد."
-"إن حفدة أبي لهب لا يهابون الله، وخبثهم يقبر كل يقين!"
وبهدوء من يثق في نفسه:
-"أنا واثق، اسأل بنفسك لتتأكد من الأمر."
-"شيء واحد أنا متيقن منه، علي أن أشتري لك صينية من النحاس، ودزينة من الأقداح، وبراد، وشمعدان نحاسية، وطبق خبز من القصب، وخيمة، وحمار، ودفتر من الحجم الكبير.. أكيد ستحتاجه لتدوين مذكراتك!"
وباستغراب:
-"لماذا ؟"
-"فقط لأن جشعهم لا يرحم أمثالك!"
-"إنك تبالغ!"
رفض بشدة، وبعصبية أصر على موقفه، متشبع به حتى النخاع، ولا أحد يستطيع أن ينتزعه منه، إلى أن  أتى اليوم المعلوم، الذي ذكرني بوثيقة وعد بلفور المشؤوم، أتت التعيينات، التي صلبت الفرحة في عمق الإحباط القاتم، وارتسمت على وجه صديقي علائم الاستغفال، والشماتة، والغدر؛  تلعثم في قراءة التعيين، شفتاه ترتعشان، يداه ترتجفان، دقات قلبه في سباق مع لمعان البرق، وعيناه متجمدتان على الورقة، وبالضبط على الاسم الغريب، بالكاد يتمتم الحروف.. ..  ..!!! أحس بخيبة أمل تنزرع في وجدانه، كاد أن يسقط على الأرض من هول الصدمة الغادرة، تبسم في فتور، محملقا بذهول في عيني الدنيا الماكرة، مغمغما بين شفتيه:
-"إنه زمن العجائب يا صديقي الوفي!!"
وهمست في أذنه اليسرى:
-"بل إنه زمن الرذيلة يا صديقي العزيز !!"
بحثنا عن هذا الاسم الغريب في الخرائط الوطنية التي وقعت بين أيدينا، لم نعثر له على أثر، والله لم نعثر عليه! فارتأينا الذهاب إلى مصلحة الخرائط التابعة للولاية، هناك، احتجنا لمن يوجهنا، فتلقفتنا أصابع الشر، سهلت علينا المأمورية، لكن مقابل عشرة دراهم، موظف بخيل لم يرأف لحالنا، ولا لصغر سننا، انتزعها برمشة عين، ودسها في جيبه الوسخ، وهو يمدد عنقه للأعلى، راميا نظراته يمنة ويسرة، كعاهرة تتوخى الحذر من أن تضبطها دورية للشرطة؛ بعدئذ، تبين لنا، في خريطة جد مدققة، أنها نقطة ضائعة في السراب؛ جمد عبد الله في مكانه، مسلوب القدرة على الحركة، كالمصعوق بضربة كهربائية قوية، جلجلت أركانه، قذفته أيادي الشر بقسوة شرسة، فاقت رمية المنجنيق، وهبت عاصفة أثارت زوابع الألوان القاتمة، بعد لحظة، ساد المكان سكون الموت، كأن شيئا لم يقع، لتتكشف له، فيما بعد، حقيقة خيبته.
-"صديقي، إنه المنفى.. أبعدت عن العائلة، عن الأهل، عن الأصدقاء، عن الأصل.. مجبر سأرحل، يا أخي!"
-"ليس لك اختيار يا عبد الله.."
-"بعد سنتين أو ثلاث سأطلب الانتقال.."
-"ربما يسمحون لك بذلك!"
-"من حقي!"
-"حقك اغتصبوه أكثر من مرة."
-سأعود إن شاء الله!"
-"إن شاء الله!"
مرت الأيام، والأشهر، والأعوام، لم يحتمل خلالها عبد الله المكوث في المنفى الإجباري بدون ذنب اقترفه، فقام بمحاولات يائسة في المنعطفات المظلمة، التي يحتكرها عبدة الشيطان، لعله يستبصر شرخا في الفراغ الدامس،  يتسلل منه ويعود إلى البيضاء، مهما كلفه ابتزاز حراسه، استبدت به فكرة العمل بالمثل، لقد أدرك أخيرا أن لا شيء بدون مقابل، ومن حينها، لم يتوقف عن قرع الأبواب، والاستسلام لشروط سماسرتها، استغلوا سذاجته واحتياجه للدفء والاستقرار فامتصوا دماءه، وخانوا العهد، ومن الغباء مقاضاتهم، فترسب اليأس في عمقه، واشتد طغيان القهر، فلم يمنحه فرصة تحقيق أحلامه ومساعدة عائلته، وامتد مصيره مأسورا، أكثر من عشرين عاما، في بقعة لا توجد بالعين المجردة..
لقد أحكمت أيادي الشر ضربتها، وأوصدت خلفنا كل المخارج، لا لشيء إلا لأننا رفضنا اغتصاب لقمة العيش، ولم نكترث لغدر الزمن وجشع حفدة أبي لهب..
مع مرور الأعوام، خفت تدرجيا حرارة مراسلاتنا، وفي يوم، يتناهى إلى سمعي هديل يمامة حزينة، اخترقت سكون غرفتي، وبصعوبة تقدم لي تعازي عبد الله، ومواساته الحارة في وفاة والدي، عبارات مشحونة بحزن حارق، وبعدها بثلاث سنوات، يتوصل بتلغراف يحمل جنازة والده، وتنقطع الأخبار..
ولا يزال عبد الله محاصرا هناك، وفي البيضاء الحاضنة لكل غريب، يشتد الزحام والتلوث الخلقي، وأنا أمارس اختفائي، أعيش الغربة، خلف الصمت، لعلي أتفادى صيحة ديك مأجور قبيل بزوغ الصباح الآتي..
وتمضي الأيام، بمزاج قاس تشق مرورها العنيف، وكلانا يترقب انفراج مصيره، إلى أن نطق الصمت!!    

محمد رياضي        
الدار البيضاء، شتنبر 2011

     
 تبدأ أحداث القصة مع أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، وتستمر إلى يومنا هذا!             

jeudi 15 septembre 2011

الدراما التلفزيونية المغربية! 1


إهداء: إلى روح الفنان المبدع محمد عصفور، إبراهيم السايح، محمد الركاب، محمد بوعناني، إدريس التادلي، العربي بن تركة، مصطفى التومي، عبد الرحيم إسحاق.. وغيرهم من جيل الرواد والتضحية في العملية الإبداعية المغربية، السينمائية، التلفزيونية، المسرحية، والنقدية..  
وتحية تقدير إلى الفنان والمثقف المبدع الطيب العلج، الطيب الصديقي، نورالدين الصايل، جيلالي فرحاتي، شفيق السحيمي، محمد حسن الجندي، فريدة بن اليزيد، محمد باكريم، حمادي كيروم، خالد الدامون، مصطفى المسناوي،  الزوبير بن بوشتى، محمد بوغابة، عبد القادر لقطع، علي أسماعي.. وغيرهم من رموز استمرارية شعلة التضحية من أجل إبداع مغربي متميز..     

أوراق:
الدراما التلفزيونية المغربية !
عرفت الساحة الدرامية التلفزيونية، منذ بداية الألفية الثالثة، انتعاشا ملموسا، أغنى الخزانة التلفزيونية بتراكم من الأعمال الدرامية المغربية، ولأن الإبداع الحقيقي يتمثل في الكيفية وأسلوب صياغة الحبكة الدرامية بصريا، لم يستحسنها ويتفاعل معها المشاهد المغربي، فمجمل الأعمال، أقول مجمل، لم ترق إلى مصداقية الإبداع الدرامي، لأنها تفتقر إلى  تناغم مكونات السرد الفيلمي، بين النص الدرامي والرؤية الإخراجية، في تناول ومعالجة قضايا وحالات سيكولوجية، وطرح الأفكار والمواقف ووجهات نظر.
من المسؤول؟  هل يرجع ذلك لضعف السيناريو ومقومات البناء الدرامي؟ أم لضعف الرؤية الإخراجية ؟ أم للجشع والتطفل على الإنتاج؟ أم لغياب إستراتيجية عمل واضحة؟ .. من المسؤول في تشويه وجه الدراما المغربية؟ ..

الورقة 1) السيناريو: موهبة، ثقافة، خيال، تقنية ومسؤولية 
كتابة السيناريو ليس فنا بلاغيا، يشترط أستاذا جامعيا، أو أديبا، أو فنانا، بل فن قائم بذاته، له شروط وقواعد، بالإضافة إلى الموهبة، والثقافة السينمائية، التي تنمي مخيلة السيناريست، وتقوي معرفته بالسيناريو ومكونات البناء الدرامي. ولأهميته كأرضية وأساس مشروع عمل فيلمي، قيل الكثير عن النص اللغوي الدرامي، وحملوه مسؤولية ضعف الفيلم المغربي، وفي الحقيقة  السيناريو بريء براءة الذئب من دم يوسف (عليه السلام).
أزمة النص !
أعتقد أن أزمة  النص، الذي يحسب على ضعف الفيلم المغربي، هي أزمة عالمية، ولتجاوزها تقوم شركات الإنتاج في أهم عواصم الإنتاج العالمية، بشراء الأفكار المقبولة مبدئيا،  ويقوم كتاب متخصصين في الكتابة الفيلمية، يعملون لصالح تلك الشركات، بتعديل تلك الأفكار، وصياغة قصص درامية بصريا، تعتمد حبكة درامية مقنعة. ونحن في المغرب، لا نزال في مرحلة ما قبل دخول مدرسة السيناريو، رغم وجود أسماء غالبيتها مفروضة بعقلية التراضي الانتهازي، وأخرى، ناذرة، بعناء تميز حضورها بقوة المعرفة والبحث وطرح الموقف، فمبادرة التلفزيون دعم قوي لنشأة وتكوين المنتوج الدرامي الوطني، وتفعيل دينامية التنافس لتطوير آليات الكتابة الفيلمية واللغة البصرية الدرامية التلفزيونية والسينمائية على العموم، مضمونا وشكلا، لكن كثافة الإنتاج ليست بالضرورة حالة صحية، فالمحسوبية والانتهازية تفتح شهية جشع من هب وذب لقضم قطعة من كتف "تشجيع المنتوج الوطني"، إلى درجة اشتدت شهية المتطفلين على الفن، فأفرخت التجربة من يجمع  بين السيناريو، والإخراج، والإنتاج،  وضاعت جودة الدراما مع حسابات مزاجية ونزوات جيوب المتطفلين.
السيناريو وغياب اللغة الفنية والجمالية..
لم يتمكن السيناريو، لحد الآن، رغم دعم التلفزيون، أن يحدد معالم شخصيته، وتُحمله جهات أخرى، محسوبة على الفن وخواطر صحفية، مسؤولية العلة المرضية التي يعاني منها الفيلم المغربي؛ وفي الحقيقة، النص الدرامي، الملقب عالميا بالسيناريو، بريء من التهمة،  فالسيناريو له شروطه الخاصة، إنه المادة الخام لأرضية مشروع فيلم بصري،  إنه الهيكل العام الموحد  لنسق منظوم بين الكل وأجزائه، من خلال وحدات بنائية مترابطة تدعى المشاهد، محددة بالزمكان،  تقدم الشخصيات وحواراتها، تحركها دوافع خارجية وأخرى داخلية، في إطار صراع درامي تصاعدي،  يندفع تدريجيا نحو الحل والنهاية، وذلك بأسلوب سلسل وترتيب محكم، بعيدا عن الافتعال والمباشرة. يعتد خطا قصصيا دراميا ينفرد بأسلوب لغوي سلسل، يختلف عن الأعمال الأدبية الأخرى، التي تعتمد على متعة القراءة وجمالية اللغة، يستخدم كلمات مركزة، وفقرات مقتصرة، في إطار مشاهد مرتبطة في تناغم منظم،  تحكي، في تصاعد درامي محكم، تطور أحداث القصة والشخصيات، انفعالاتها، وصراعاتها، وحواراتها، وضبط النقط الزمنية في تحول الأحداث واندفاعها إلى التصعيد ثم إلى الحل؛ والتمكن من ضبط  أسلوب  النص الدرامي، ومعرفة مكونات البناء السردي، لا يتوقف فقط على معرفة قواعد كتابة السيناريو، أو دراستها، وإنما أيضا على الموهبة، والمخزون الثقافي، والاجتهاد الشخصي للسيناريست، فثلاثية البناء السردي للحكاية عند أرسطو، بداية وسط ونهاية، لم تنزل من السماء، وإنما، أكيد، نتاج التطور التاريخي للعصور الثقافية الفكرية والأدبية والفنية السابقة، واجتهاد أرسطو، جسر التواصل الفاعل في استمرارية عملية الاحتكاك والتطور إلى العصور الموالية، ثم  إلى ما وصلت إليه في العصر الآني. فأساسيات الأسلوب الفيلمي،  يستمدها كاتب السيناريو، المثقف المتمكن، بالأساس من الاجتهاد الشخصي، والتراكمات الأدبية والفكرية والفنية التي تختزلها ذاكرته من تنوع المرجعة الثقافية والمشاهدة المستمرة المتنوعة الأصناف الفيلمية. وعند خوضه كتابة نص درامي، تطول معاناة آلام المخاض ساعات وساعات ، أيام وأيام ، شهور وشهور، يستشير  فيها السيناريست، الموهوب المثقف، الحكايات، والقصص، والتجارب الإنسانية، ويستفسر الكتب، والمجلات، والمتخصصين وغيرها، يتقصى أثر الدواء الفاعل لتنشيط شرايين الحالة الصحية لاستحمال وجع المخاض بسلام،  وتجاوز مشاعر الخوف والألم لحظة الولادة المهيأة لمشروع فيلم تلفزيوني أو سينمائي.. وبعدها، تأتي مرحلة الانجاز البصري فلسفيا، وفكريا، وجماليا، التي تعهد إلى فنان مثقف له رؤية، ومتمكن من أدواته الإخراجية.
إن لم يستطع السيناريو المغربي أن يرسخ شخصيته بعد، بالشكل المحترم عالميا، فالسبب يعود إلى المتطفلين ، الذين قفزوا إلى فوضى سوق "تشجيع المنتوج الوطني"، يتباكون، يتمسكنون، ويتوسلون، ويتحينون فرص التسول في مستنقعات الصفقات المشبوهة. فغالبية ما قدم ليست بنصوص درامية، وإنما مجرد أفكار بسيطة لم تتبلور إلى مستوى نص درامي، وإن وجدت بعض النصوص، الصالحة كمادة خام أولية لمشروع فيلم درامي، فإنها لم تجد مخرجا فنانا، يعيد قراءتها، وتعديلها وفق تصور درامي خاص، فنيا، ومعرفيا، وجماليا، يجعلها أكثر إثارة وتشويقا بصريا، فصورت كما جاءت في كتابتها الأولية.
جفاف الخيال البصري:
فبعد سنوات من دعم التلفزيون، للدراما المغربية، برزت بعض الأقلام النابضة برغبة الكتابة الفيلمية، وتؤمن بأهمية حرفية السيناريو، لكن مواليدها استحوذ عليها  أشخاص، يفتقرون إلى الإبداع الإخراجي، منهم من أسره زمن الرتابة، وخانته الذاكرة، فضاعت منهم قواعد الصنعة والإبداع ؛ ومنهم من  يعاني من جفاف الخيال، ويختفي خلف لغة موليير لاعتبارات وهمية، يدعي أنها لغة الفن والإبداع ؛ وأنا أقول لهم إنها مسألة عقل وخيال وليس لغة، فما يكتب، يا ناس، بلغة موليير يمكن أن يكتب بلغة العم سام، وبلغة الضاد، وبكل لغات العالم؛ وآخرون من النبهاء، بقدرة قادر، باتوا مخرجين، فصوروها كما هي على الورق، لم تتجاوز النسخة الأولية للسيناريو ، فأتت "خزعبلاتهم" فارغة من اللغة البصرية، في الوقت الذي يفترض فيه على المخرج، في إطار ميثاق التكامل المهني، على الصعيد العالمي، في الصنعة الفيلمية بين السيناريست والمخرج،  من فهم النص الأصلي، واستيعاب فكرته المحورية، ودعمها برؤية إخراجية درامية يتفاعل معها المشاهد بصريا وعاطفيا وذهنيا.
فضعف الفيلم المغربي، يا ناس، لا يتحمل السيناريو وحده المسؤولية، وإنما من يسترزق بالعمل الدرامي، ويسطو، بقدرة قادر، على السيناريو، ويتطفل، ببركة القادر نفسه، على الإخراج، ويتطاول الحذق منهم، على الإنتاج أيضا، بما فيهم بعض الأسماء التي تعتقد نفسها أهراما فنية، ووهم الأقدمية، يسمح لها بأن تستحوذ على أية كتابة سردية، وتصورها كما هي دون أي تعديل، واجتهاد فني..
من المسؤول؟
الفيلم التلفزيوني عمل متكامل بين السيناريو والإخراج، وما يعانيه من ترهل لا يعود فقط إلى علة في ذاتية السيناريو وإنما إلى ملابسات الصفقة لإنتاج المشروع الفيلمي..  إذن من المسؤول؟
 السيناريو؟
الإخراج؟
الإنتاج؟
التلفزيون؟
الجهة الوصية؟
أم..؟..
فريثما تنتهي تحريات محقق مباحث سري في تحديد المسؤولية، لنستفسر الإخراج في هذه النازلة !

                                                                              محمد رياضي
                                                                           البيضاء، شتنبر 2011

حيرة وجود..

  حيرة وجود .. سمة حورية أسطورية، وعناد نخوة جاهلية، وكبرياء أنثى إنسان، بملامح طفلة غامضة دائمة الحزن والابتسامة، صادفها في حيرة وجود، تا...