vendredi 2 mars 2012

Flowers of fire! !أزهار النار

إهداء: تحية إلى شهرزاد، الأنثى الرمز.
تحية إلى نساء، من أجل إثبات جدارتهن والحق الإنساني، تحملن مرارة الاضطهاد، المنفى، والسجن، وعنف الاغتيال، شهيدات رفضن ذل الإلغاء، فسكنتهن رغبة لقاء الرب من أجل الذات، والحق، والوطن، والإنسان: الشهيدة سمية بنت الخياط، شادية أبو غزالة، سعيدة المنبهي، سناء محيدلي، دلال المغربي..
       تحية إلى مناضلات تحملن ما لا يتحمله الخيال، لكن إرادتهن قهرت بطش السجان المختل، وغيض الذكورة المخصية، فمقتوا بطولة أنثى الإنسان: المناضلة جميلة بوحيدر، نوال السعداوي، ليلى خالد، فاطنة البيه.. 
       تحية إلى كل أنثى تحترم أنوثتها، وتتشبث بإنسانية الإنسان، إلى الأم، الأخت، الزوجة، الابنة، الصديقة، العشيقة، الحبيبة، الإنسانة.. تحياتي! 


نص:
أزهار النار! 

             في لحظة قلق ونفور، هاربة من الاستسلام العاجز، هاجت عصبيتها الجامحة، فاندلعت شرارة حمم كامنة في الأعماق؛ رمقته أمل بكره شديد ونفور حاد، وولت باكية دون قلب، تخفي وجهها الحزين براحتي يديها الناعمتين، لا تريد أن يلمح أحد عينيها تذرفان دمعات دافئة،حارقة، متمردة..  منذ الصغر، ترعرعت على الخوف، الحياء والخجل، والتباهي بضفيرتها، والخضوع للصمت الطاغي، حتى جعلوه قدرها، ومارسوا عليها حيف الوصاية، فتعودت الاختلاء، لحظة ضعفها، حزنها، حيرتها، والتلهي بأحاسيسها، وتطلعاتها، وأحلامها..

        بعيدا عن مضايقة عيون المكر، والنفوس الخبيثة، في ردهة الشرود الذهني، العزل الانفرادي البارد، الذي تربت على ممارسته على نفسها، يأتي الزمن الضائع، يتوهج وجه أمل، ويستفيق العصيان في دمها، يكسر الأغلال، ويطلق سراح الآهات المخبوءة، والأحلام المحبطة، والتطلعات المغتصبة. وفي صمت المشاعر تنفجر في أعماقها صيحات يعلوها القهر، تصدع شروخا في  السكون الشاحب الذي يأسر إرادتها، فتفيض عيناها سيلا من الدموع الحارقة، ويجتاحها هذيان هستيري، لا يتجاوز كيانها الداخلي..

       بعد لحظات تعود أمل لسكينتها وفظاظة الضجر الممل، وينتابها ضمور وارتخاء شديد، كأنها تخلصت من هم ثقيل،  فركبتها رعشة عنيفة، نفضت جسمها، كحيوان مذبوح يرفض الموت، كررت الانتفاضة بنفور عصبي، مرة ومرات، كأنها تصر على موقف حاسم، أو التخلص من شيء يتعب روحها.. فجأة همدت رعشتها، وركزت عينيها، المغرورقتين بالدموع، في فراغ فضاء عزلتها، وأمعنت النظر مليا، عبر دمعات ضبابية، دمعة، دمعة.. طال التمعن، ونسيت نفسها، إلى أن ابتلعتها نقطة سوداء، وانسلخت عن المكان؛ لفها السواد، وسحبها إلى غيهب الظلام المخيف. ولأنها تؤمن بعناد الشهداء في انتزاع الحق وحرية الأوطان، بنشوة عز العناد حضنت أمل ذاتها المقهورة، واعترى هدوءها المرتجف عاصفة هوجاء، وتسارعت نبضات قلبها، كسحت موضعها المحاصر، فبات قلبا يصارع من أجل البقاء، دقات مرعبة، هزت كيان أمل المرهف، وتدافعت أنفاسها المحمومة الخانقة، ضاق صدرها، وصعب عليها  الاستنشاق بشكل عادي.. ثوان وعادت أمل إلى هدوئها، استجمعت نفسا طويلا، وتغلبت على ضعفها، وبأمل مارد أخذت تعيد نسج أحلام الأنثى المهضومة، وأدوها عند ولادتها، وذنبها رفضت الولاء المزدوج، وتشبثت بحق الوجود الإنساني، فحملوها وزر الشهوانية والشيطنة، وكفروها، وجرموها.. 

 

       في غليانها المحاصر، تجاسرت وقفزت إلى وجه أمل تساؤلات محظورة، فارتجفت عيناها بتخيلات صعبة، أثارت دهشة الخرافة العمياء الطاغية، فاستبد بها الأرق؛ مخلوق ممسوخ الوجه، حالك اللون، مفتول العضلات، أشعت الشعر، ذو شارب أشيب ممتلئ، ولحية شهباء متسخة.. رُعب منظره أعاد أمل إلى واقع لحظتها، لكنها تماسكت، وتعنتت، وعندما أبان عن أنيابه الحادة، تراءت حولها أنياب معقوفة، تتمايل في تخيلات أشكال مرعبة، أفقدتها التحكم  في خوفها، فخانتها إرادتها، وفرت دون اتجاه، هاربة من ذاتها، من ذاكرتها، من ضعفها، من حيرتها، من نفسها.. ولم ترحمها الأنياب الهوجاء، تكالبت حولها، تناسلت، وتكاثرت، واشتد تسلطها، ولاحقتها في كل مكان، لم تترك لها فرصة استرجاع أنفاسها خارج قلعة الظلام، فاحتواها رعب شديد، كأنها استيقظت للتو من كابوس مرعب، كادت أن تخنقها أنفاسها المتلاحقة.. لحظتها، أدركت أمل أنها تقف عند خط النار، لم تعهد نفسها تمردت مرة كما فعلت حينها في معتقلها الاعتيادي، تملكها إحساس غريب على أنها إنسان آخر، شخصية أخرى، أنثى أخرى، شهرزاد تمتلك قوة الصمت الشقي، والوعي الحقاني، وجرأة القتال الخارق. تغلغل التحدي في دمها، أخذت نفسا عميقا، وبعد استعادة هدوئها الطبيعي، جالت نظراتها في صمت الاغتراب النفسي، ظلت جامدة، وسط ذهول مضطرب، لم تنبس ببنت شفة، وفي هدوء حذر دارت، مرة أخرى، نظراتها في فضاء أسرها، خوفا من أن تترصد آذان خائنة همساتها الممنوعة، وآهاتها المرفوضة، ورغباتها المضطهدة، وظلت عيناها ترتعشان في سكون مضطرب اكتسح وجودها.. 


       وهي على تلك الحرقة النفسية، في سكون بارد محفوف بالأوهام الشاقة، فجأة تعلق في فراغ العزل طيف وجه سيدة وقور، استأنست له أمل،  ابتسم لها الوجه، لاطفها بلغة الملامح، وداعبها بنظرات فاحصة، تستفسر في ما يقض مضجعها، وبنفور تلقائي، ثارت أمل في الوجه الطيفي:

 -" من نصبه قاهرا لإنسانيتي؟ من أعطاه حق امتلاكي بعدوانية الرقيق؟ ولماذا يشتهيني ويستلذ تعذيبي؟ لماذا يستحل قهر إرادتي، وتحطيمي، والغائي؟  لماذا؟.. يا الهي لماذا ؟"
بفتور أجابها الوجه الطيفي:
-"مآل أية آمال آمنت بنصف حقيقة، فاستسهلت مهمة اصطيادها!"
باستهزاء تستغرب أمل:
-"أي فكر معقد هذا!.."

        اشتد غضب المخلوق المستبد، الذي يتربص أحلامها، فصفعها بعداء مقيت، عندها تبخر الوجه الطيفي، وابتلعه الفراغ، وعادت أمل إلى لحضتها الآنية، لم تتمالك نفسها، فاحتوتها قوة خارقة، وكالهبلاء انقضت على الفراغ  الكئيب، واحتد عنادها، وازدحمت التخيلات في ذهنها، وطارت بها خارج خناق الصدر، انبسطت ملامحها المنقبضة، كأنها وجدت ما يبسطها، واتخذت لها أسماء مستعارة، ووجوها غير وجهها، وتخلصت من جواز سفرها، وسافرت بأحلامها الممنوعة، خارج حدود الاضطهاد والاستغلال الذليل، في عالم افتراضي ساحر، يقتحم واقع مجتمعها البئيس المحتجز؛ عالم لا يعترف بالحدود وفكر المنع، تعيش ذاتها، وتمارس أنوثتها وحقها الإنساني، تحتج على قهر الإرادة، والتحطيم، والامتلاك، وتلاحق تطلعاتها الهاربة من قسوة ظلم واقع عدواني، يسترجل خلف صمت الموقف الإنساني الذي تلتزم به، والأدهى والأعنف أن تتحامل على نفسها، تعنفها، تلومها، وتحاسبها على استفساراتها، حقوقها وآهاتها الإنسانية، وتتواطأ مع اللغط البليد لإرغامها على قناعة الخضوع، عندها يتملك أمل نفور عصيب، فيتراءى لها الوجه الطيفي من جديد، ويبادرها بالكلام:

 -"ألم أقل لك أنها استسهلت مهمة اصطيادها!"
يتأملها قليلا، ثم يواصل كلامه:
 -"أنت من طبعه على ذلك، فكلما بدت لك جمرة الغيرة في نظراته تنتابك نشوة عابرة، فتتوهمين أشياء لا وجود لها، وتتحاملين على نفسك، وتعيشين الاستسلام! "
      بيأس تعقب أمل:
- " يا له من ضمير مظلم، يشتهي أنوثتي، ويستلذ هدر وجودي الإنساني..!"
لاحت ابتسامة باردة  على الوجه الطيفي، وتلاشى وسط الصمت  الرهيب الذي يأسر المكان..

        بعد يوم شاق، عاندت خلاله التثاؤب المرهق، عادت أمل، في المساء، متعبة إلى بيتها، تلتمس وسادة وغطاء، ولم يستطع الأرق الطاغية أن يمارس طقوسه عليها، فقد اختطفها النوم العميق، وفي لجج الظلام زارها غريمها، النصف الآخر، فقذفته بكلام لم يعهده منها:

   - "لقد عشقت فيك ذاتي!، قاسمتك التفاحة، وجردتني من ثيابي.. وألغيت إنسانيتي، من الذي منحك حق استعبادي؟"
أجابها كمن يريد أن يراضي طفلا مدللا:
    - سأكون ما تشائين يا حبيبتي!!
مع ومضة راحة نفسية عابرة صدت احتياله العاطفي:
-       "لا أثق بك، ولدي أسبابي!"

         عندها، سحب الليل عباءته، وانتزعها من حلمها، واستفاقت، وانقبض صدرها حزنا على الحلم الذي لم يكتمل.
استيقظت باكرا، حيرانة في أمر مهاتفته، وسماع نبراته، فعاودها صوت السيدة الوقور، التي تعودها في شرودها الذهني، يحفزها على الاتصال به، قبل أن تمتلكه دمية تهوى المغامرة، أو بائعة الهوى، ويزحف عليها تسحر الزمن، وتندم على عمرها المغتصب.. اشتدت حيرة أمل، وترددت في مكالمته، أكيد سيرد عليها، عندما يلمح رقمها على شاشة هاتفه المحمول، وربما سيكابر، ويلغي إحساسه، ويمتنع عن الرد؛ لم تستقر على حال، روحها تشتهي، وعقلها يحلل، والواقع يضغط بعدوانية وقحة..

           بعد تركيب رقمه، خرقت أذنيها رنات جرس الباب، مصحوبة بدقات صاخبة متتالية، تناديها لفتح الباب، فتساءلت أمل باندهاش عمن يكون الطارق في صباحية يوم عطلة، فراحت لتتبين من يلح على رؤيتها، عندما انفغرت دفة الباب أصابها الذهول، ولم تقو على فعل شيء، وجدت نفسها أمام باقة ورود زاهية، يفوح منها عطر مشاعر ملونة..  التقت عيناها بعينيه، وتبادلا نظرات تسبر بِصمتها غور كل منهما.. اقتربت منه، دنا منها، ودون وعي منها راحت يدها اليمنى لتستلم باقة الورود المقدمة لها، فتلامست أناملهما، بل تعمدا الملامسة، وتبدد القلق، واشتد الارتباك، ومن وراء ظهره لاح لها وجه السيدة الوقور، فرمتها أمل بنظرة شاردة، وعلى غفلة منه، لغت رقمه بإبهام يدها اليسرى، ودست هاتفها النقال في جيب منامتها، وذابت المسافة بين الوجهين، وتجاذبت الشفاه، والعيون شبه مغمضة، وبثقة هادئة سحبت أمل شفتيها المبتلتين بندى سحر سعادة عابرة، وقذفته بنظرة عميقة، لمست أحاسيسه، فانحنى ليقبلها، بغنج تمنعت، وبكبرياء مالت برأسها إلى الوراء، فاستلطفها بلمسات تداعب خصلات شعرها الأسود الناعم، متدلية على جبين وجه تستحوذ عليه الصرامة وبرودة الإحساس..

         تحمل جفاءها، ومارست عليه أنوثتها، اجتاحته جاذبية عينيها، وسحرته ملامح وجهها، وسرح هائما في مفاتن  جسدها؛ طال التأمل والسرحان الحالم، ولفهما صمت دافئ، أوقظ نزوات نائمة يصعب السيطرة عليها، وانكمشت العيون، تأبى التورط في مغامرة تجهل عقباها، وأطبقت الشفاه على بعضها البعض، تمتص رحيق عاطفة ملتهبة، قبل أن يستعيد الوجه الآخر، لكل منهما، وعيه، ويكشر عن أنيابه.. لحظة، تخلت عنها مشاعرها، وبهدوء تسحب أمل شفتيها، دون أن تبعد عينيها عن عينيه، ظلت صامتة دون حراك، خالية من الإحساس، وغائبة عن المكان.

      بعد حين، أدركت أمل أنها لوحدها في العزل الانفرادي، كانت، كل الوقت، الذي قضته داخله، تكلم وجهها الآخر على قطعة مرايا منسية على حائط غرفة أحلامها المحظورة، قطعة مشقوقة، صدئة وفاسدة ببقع سوداء بيضاء، تشوه وجه الناظر إليها. بملامح حزينة مبتسمة تفحصت طويلا وجهها المشوه، واستجمعت نفسا عميقا، واسترخت لثوان، كأنها تتأهب لنسف انتقامي أو لتنفيذ قرار مصيري، عندها، تركت الوجه المشوه على قطعة المرآة الصدئة، وبعصبية حادة ثارت على نفسها، وأحرقت الخوف، وغادرت الردهة الضيقة، وأعلنت عصيانها، واشتد صراخها؛ قَصفت، وعَصفت، وفَجرت غضبها في العقول البليدة، فاُضطهدت، واُعتقلت، وعُذبت، واغتيلت أكثر من مرة، وفي كل مرة تنبعث كأزهار النار، ويستمر عناد الشهادة في هدم جدار الصمت، وإحراق عرش خرافة المستحيل..
                                                                    محمد رياضي
                                                                    البيضاء، مارس 2012                                                                              

حيرة وجود..

  حيرة وجود .. سمة حورية أسطورية، وعناد نخوة جاهلية، وكبرياء أنثى إنسان، بملامح طفلة غامضة دائمة الحزن والابتسامة، صادفها في حيرة وجود، تا...