mercredi 17 septembre 2014

عاهرة شريفة..

أعتذر من القارئ على بعض الكلمات القبيحة في المجتمع العربي.. رياضي

نص:

عاهرة شريفة،

صباح ممطر من أيام الثمانينات..
يجلس رياض لوحده إلى طاولة في مقهى ضيقة المساحة، ينتابه احساس أنه غريب عن المكان، فغالبية المتواجدين بالمقهى يعرفون بعضهم، ربما لأنهم زبائن منتظمين.. طاولات محدودة العدد، وكل الكراسي مشغولة إلا واحدا بجانب رياض يضع عليه محفظته.. فجأة دخلت المقهى سيدة في الثلاثينيات، سلبت انتباهه واشتهاء نظرات بعض الحاضرين، كأنهم يعرفونها، لها جاذبية مغرية، جميلة الوجه، ساحرة القد، متوسطة الطول، بيضاءة البشرة، متناغمة ألوان الملبس، ترتدي جلبابا عصريا باهت الخضرة، وحول عنقها كشكولا غامق الحمرة، وحذاء لامع السواد، وبيدها محفظة صغيرة الحجم بلون الحذاء، ورغم تواضع ملبسها يصنفها اللامح لها من سيدات الطبقة الراقية، خطأ وقعت في مكان دون مستواها الاجتماعي.. 
ظلت واقفة عند مدخل المقهى، مبللة بمياه المطر مما زادها اغراء وأنوثة طاغية، رماها رياض بنظرات اعجاب سريعة، وأعاد عينيه إلى الأوراق التي بين يديه في انتظار أحد معارفه، على موعد معه لأمر يهمه، في تلك اللحظة يلج الصديق المقهى، قصير القامة، أسود البشرة، بسيط الهندام، وغير متناغم الألوان، هو الآخر مخضل بالماء، لكن لا يثير الانتباه كالحسناء المبللة، دخل راسما ابتسامة بلهاء على شفتيه، بحرارة يسلم على السيدة السالبة العيون كأنه على معرفة وطيدة بها، مما أثار استغراب رياض وتساءل في صمت:" من أين له معرفة هذه السيدة المحترمة؟ "..
دون مستواها الاجتماعي، والدراسي ضعيف جدا، ومهنته بسيطة جدا جدا، علت وجهه ابتسامة سعيدة وهو يحييها بوقار، كأنه خادم أمام أميرة من أميرات القرون الوسطى، يطمئن عليها، ويسألها لماذا لم تأخذ لها مكانا ريثما تتوقف الأمطار، وأومأت برأسها ونظراتها تلف المكان لتؤكد له بعدم وجود كرسي شاغر، فأشار لها بالكرسي القريب من رياض، وأقنعته أنها تتفادى أن تفرض نفسها على شخص لا يعرفها، لأنها لا تضمن ردة فعله عندما يعلم من تكون، ودون تردد دعاها للجلوس على الكرسي المقابل لرياض الذي أزاح محفظته عنه.. أنثى في آية اللباقة والأدب، بحياء اراحت نفسها على كرسي، وتفادت اطالة النظر إلى عيني رياض، لها عينان عسليتان ساحرتان، بدون تقديم أزال الصديق البروتوكول، عرفها برياض، وقدمت نفسها، وارتاحت إليه، وبعد لحظات انفجرت عفويتها، ونطق اللسان.. 

سعاد، بائعة هوى، يعني عاهرة ، باغية، مومس، تمتهن البغاء منذ ثلاث سنوات، يبدأ عملها من العاشرة صباحا إلى أي وقت ينتهي فيه رزق البغاء.. أم لطفلة في السادسة، وزوجها يقضي عقوبة سجنية طويلة المدى، قبض متلبسا في قضية مخدرات، وبكمية كبيرة، ولم يترك لها ما تعيل به نفسها وابنتهما، فدفعتها الحاجة إلى البحث عن عمل، لكنها لا تملك لا شهادة مدرسية ولا تجربة مهنية، فلم تقبلها إلا بعض البيوت كخادمة، تجارب استغلالية عانت فيها ويلات قاسية بين غيرة الزوجات وتحرش الأزواج وكبث الأبناء، وخوفا من أن تلحق زوجها في تهمة بريئة منها، في حالات رفض تهديد الاخضاع، رغما عنها خرجت إلى الشارع، وامتهنت علانية البغاء لتعيل نفسها وابنتها، وأيضا أن توفر مصروف قفة زياراتها الأسبوعية لزوجها، بما فيها علب سجائره.. 
بعد انهاء سرد قصتها الأليمة، دون الشعور بالإحراج والذنب والندم، طرح عليها رياض سؤالا بليدا حول علم زوجها بمصدر مصروف البيت والقفة والسجائر الأسبوعية.. تبسمت باستهزاء، وتمتمت بيأس :"دون أن يسأل.." ، نعم لماذا يطرح السؤال؟ يعلم أنه لم يترك لهما ولا سنتيما.. 
بعد لحظات توقفت أمام المقهى دراجة نارية متهالكة يقودها رجل متسخ، غير مقبول الخلقة، نزلت المرأة التي خلفه، وانصرف قبيح الوجه لسبيل حاله، وأسرعت السيدة إلى الواجهة الزجاجية للمقهى لتتقي قطرات الأمطار. ارتعدت فرائس سعاد عند رؤيتها، وقطبت حاجبيها، فاستفزها رياض بسؤال هازئ حول سبب نفورها عند رؤية السيدة المنافسة، فكشفت له سعاد أن السيدة حديثة العهد بالبيضاء، وواصلت كلامها العنيف:"وأن ذاك "القواد" الذي أوصلها يكون زوجها، وعلى رأس كل ساعة يأتي إليها ليسحب منها ما جنته على حساب كرامتها، لذلك أمقتها، وأنفر منها، وأحتقر ذاك الخنزير الشبيه بالزوج، بل الخنزير أشرف من روحه.."، وصمتت، وغمرت ملامحها سحنة حزن مكفهرة، عندها كانت الأمطار قد توقفت..
وعلى حين غرة، عادت ملامحها إلى طبيعة العمل، واستسمحت وانسحبت مسرعة الخطوات، وتابعها رياض بنظرات فاحصة عبر زجاج واجهة المقهى، فرآها تتجاوز شخصا في الأربعينيات، حالته البئيسة تجيز فيه الصدقة، وكلمته دون أن تلتفت إليه، بعد تجاوزه مباشرة تابع الزبون خطوات سعاد في اتجاه الفندق الموجود في آخر الطريق.. رياضي

حيرة وجود..

  حيرة وجود .. سمة حورية أسطورية، وعناد نخوة جاهلية، وكبرياء أنثى إنسان، بملامح طفلة غامضة دائمة الحزن والابتسامة، صادفها في حيرة وجود، تا...