vendredi 6 janvier 2012

Fire of Silence ! نار الصمت


إهداء: تحية إلى الانتفاضة العربية، ثورة المواطن المقهور من المحيط إلى بحر عمان.
نار الصمت !
          
          وسط سكون الليل الهارب من صخب النهار المرهق، وعلى امتداد سرير زحفت عليه أجيال زمن الضياع والقمع 
      المؤمم، جسد، بارتخاء ثقيل، مستلق على ظهره، يلهث بصعوبة خانقة، يستنجد الرحمة والسكينة، بعد صراع رهيب
      كي لا تسحقه همجية النهار الموحش. يشتد لهاثه العصيب، وخياله جامح، باضطراب خفي، يتصيد الأمان في زمن
      الفضيحة  فضيلة.
       مات الأمان في قلبه، واستعذبه زمن المكر المباغت، ولحفه الرعب، وسكنه الخوف، واستبد به القلق، وتوترت
      أعصابه، وتوهج الحر في دواخله، فتلقفه صمت اليأس.. يمضي الوقت مملا، وتروح معه القدرة على النوم، ويستولي عليه
      الأرق، وما على أسير أعزل إلا أن يرضخ لمزاجية سجان صريع نزواته.
    لبث المقهور مغتربا في غرفته الغارقة في الظلمة، وفي صمت يفيض بالهزيمة أخذ نفسا طويلا، ومضت ذاكرته معلقة بأنياب الليل المعقوفة، وفي لحظة لاجئة، منفلتة من بين شقوق السواد الهائج، وبكل ما تحمله من إلحاح على اقتحام سواد الليل، اعتراه الهبل والذعر الصادم، فأخذ يدير عينيه في محجريها، كمن داهمه مس مفاجئ، وفي غمرة جنون الحذر تسلل همس صارخ إلى سريرته:

-         "  يا إلهي من ينتشلني من هذا القهر الظالم؟"

      منذ وقت، ليس بقصير، يمتد إلى مطلع الاستقلال، تشابكت غيوم حاقدة، وبسطت رمادها القاتم على امتداد الأفق الممنوع، وافتعلت صواعق رعدية أحرقت مشروع وعي الذات الحرة، واختلقت الوسواس القهري، وعزلت الجيل الغاضب، صادره طيش الاستحواذ المستبد، وقيدته أغلال الخيبة المسمومة، لتمنح شرعية الروابط المحرمة المختفية. رغم عدوانية القدر القاسي لم يفتر حسه بالانتماء إلى من يرفضون النسيان، بحذر شديد ظل المقهور جامدا، أثلج انفعاله، فبات جثة هامدة، لكن منقبضة الصدر، لأن داخل ذاكرته تقبع أشياء وأحلام محظورة حتى في النوم، ولأنه احترف عذاب الوفاء، واستلذ حرقة المبدأ، اغترب عن ذاته، وأصر على المغامرة في واقع متخيل.
     بصعوبة تزحف الثواني، كمن خارت قواه، لا تكتمل دوراتها حتى يكاد يشل حسه، ويفقد الشعور باللحظة والحياة. تمر ثانية، فثوان، دقيقة، فدقائق، ثم ساعة، فساعات مترنحة، كالسكير الثمل، بالكاد تجتر خطواتها، كأنها تتعمد اللامبالاة لتورطه في غلطة الإغراء.. النوم هارب، ودون جدوى يحاول اللحاق به، والليل لم ينتصف بعد، بانفعال حاد ثارة، وبهدوء ساكن تارة أخرى، يتقلب في فراشه، يمينا ويسارا، ينكمش، ويتمدد، يضع الوسادة على رأسه حينا، ويتوسدها حينا، ويضغط عليها بين فخذيه حينا آخر.. تتكرر العملية مرات ومرات.. يشتد ضيقه، وبمرارة يزدرد ريقه، وعيناه ترتعشان وسط السواد المخيف، وبأنامل إحدى يديه يتلمس جبينه، وبعصبية حادة يعتصر جبهته بسبابته وإبهامه، لأن أشياء تورقه داخل رأسه المحاصر في الظلام، يشتد نفوره، وبتذمر عنيف يرمي بالوسادة بعيدا في فراغ الظلمة.
      بوهن متعمد يتجاوز الليل منتصفه، مرت الدقائق كأنها ساعات، والساعة كأنها عاما، يتحسس صدره كأنه يحاول أن يبطل مفعول لغم يتسابق مع العد العكسي لينفجر. ينهض، يجلس، يقف، يخطو بعض أمتار، ذهابا وإيابا، في حدود مساحة اللغز الحزين، لقد وقع المنهوك تحت سيطرة عدو مارد لا يرحم، قيد إرادته ولا مجال للهروب، تلاحقت أنفاسه، وتأججت النيران الحارقة في صدره، وأبت أن تخمد، فتاهت نظراته في سراب حالك لا نهاية له؛ أخذته ذاكرته في رحلة داخل زمن مضى، وعيناه المتعبتان تسبحان في الفراغ الدامس، تترصدان الاستقرار الفردوسي، فارتد إلى السابق من العمر، يستحضره بحنين باسم، وراحت مخيلته تداعب صورا من الزمن المسلوب، فأعاد تلوينها، في هدوء وحدته، بجرأة وهمية، ليثير عواطف الحسناء الفاجرة، التي يعشقها بنزاهة واضحة إلى درجة الشك في سلامة عقله، رغم خيانتها للأعراف، وانجذابها إلى آهات النسيان في سرير الهوان والدعارة السياسية. حاول في رحلته الخيالية أن يتجاوز الواقع الساقط، إلى حد يصعب التصديق، ظل منبطحا في مكانه شبه ميت، إلا فكره، كان يهذي بكلمات عميقة الغور، لا يسمعها غيره، ينطقها بغبن ميلودرامي متقطع، ونشوة بطولة وهمية، يرثي بها واقعه المثخن بالمرارة، أخفها الإبعاد القصري إلى المهجر، وأرحمها عذاب الزنزانة، وأعنفها الغربة داخل الوطن، وأقهرها اغتيال الذاكرة!

-         " الماضي لا يتغير، والحاضر أصبح في خبر كان، والمستقبل قد حل منذ فترة!"

      صدى همس سرى في سكون الليل، اغتصب أذنيه، واحتل فكره، فتخلخلت الذاكرة، وتمزق الخيال، واندحرت الشرارة، وتخلصت الكلمات من ضعفها،  وتشبثت بدلالة معانيها، فعم الاضطراب الذي يدمر كل يقين، وتعمق عنده الإحساس بالضياع القاتل، وفي لحظة الانكسار، تملكه الإعجاب المحتشم لانتفاضة شيطانه الوفي، الذي اقتلعه من الواقع الكاذب، وبإعياء شديد اندفعت عيناه زائغتين وراء إغراءات الخائنة الماجنة، فضمه القلق، بكل جنون، إلى صدره الشائك، بعد أن تناساه لبرهة حالمة.. لحظات ثقيلة، تزحف ببطء ممل، الذهن شارد، والجسد مرهق، لكن بين ضلوعه عناد صلب، فجر فيه قوة الاندفاع ورغبة الخلاص..

-         " ألم يقولوا أن عزة النفس تورث العذاب والفقر والتعاسة!؟"

       تلمس جدار الظلام، صادفت أنامله زرا، فضغط عليه ليغمر المكان نور باهت، زاد معاناة في الفراغ الأسود، وبصعوبة مؤلمة فتح عينيه، بأجفان مثقلة بالظلمة، الألوان تتماوج  باهتة في الفضاء الداكن، وشيئا فشيئا تجسدت أمامه لوحات واضحة من العنف اليومي، وترامت إليه أصوات صماء، وأصداء صيحات الاستغاثة متحشرجة، مبحوحة، محرومة، مغتصبة، وزفرات حارة تطلق نيرانها في كل اتجاه..

(آه...........!)
(آه...........!)
(آه يا زمن العار!)

      ارتعشت مفاصله من الخفايا المكتومة في زمن التحايل الماكر، جيل الأكلة السريعة، والشذوذ الحاد، حياة مغلفة بالشبهات، تغويها الأحاسيس العابرة، يحتكرها فراغ الفكر، ويثير فيها شراهة الجو.. كل شيء محتمل الوقوع عند الغيبوبة، ترتكب الجريمة، وتسحق الأرواح ببساطة وجنون، ولو من أجل لا شيء!

-         "أهي عبثية القدر أم همجية النفوس الضالة؟"

      تقف العين حائرة عند عتمة الجريمة، دائمة الحزن والتفكير والاندهاش إلى ما وراء حدود العقل، تواقة إلى فتق نسيج هذه الوحشية الواضحة بين هؤلاء الذين استفردت بهم الرغبات العابرة، وتحايلوا على أنفسهم واستدرجوها إلى الظلام المعقد، يمارسون العادة السرية، ويرمقون بشماتة حقيرة دماء كرامتهم تنساب عبر ممرات ضيقة وواسعة، ودروب داكنة في عز النهار، وبعدها يسجن المشبوه المتيم، ويسرح المجرم المتبني، ويمنع لأي محظور أن يتجاوز صمت الظلام، وتستهوينا لعبة الورق، ومضغ الكلام، والتودد الزائف، فيغمرنا الشرف الماجن، ويقسو القلب بالخطايا والنزوات الرخيصة، فقط في جلسات مهربة تخرج الأسرار المخبأة عبر المواويل المورقة لتفضح الفاضلة العاهرة، وعندما تتعاهد الكرامة مع المروءة تتحول إلى طريدة العدالة، فيضيع الشرف، ويسقط من الذاكرة وسط الصخب المفتعل في الواقع الرتيب.
      انصرمت ساعات رهيبة، لم يغمض له جفن، أعياه الشرود، أتعبته المطاردة، واقتحمته أغنية الخضوع السلبي والاستسلام الذليل، فأخذ يتثاءب بقوة عصيبة إلى درجة الإغماء الخادع، وقبيل الصباح اشتدت واستعصت عليه اللحظات التي تتجاذب بين اليأس والأمل، ولأنه عنيد متمرد، حمل رأسه المثقل بالحسرة اللاذعة والجراح الأليمة، وأقر منازلة القدر القاسي في زمن الغدر المكشوف، وزج بنفسه المغلولة داخل فوضى الزحام ليفضح ما طمسته العلاقات المحرمة المختفية، وفي الأفق الممنوع تختلس الشمس أويقات ساخطة لتخترق الغيوم المتآمرة، وتعانق أبناءها المقهورين في أرض الجبناء، حتى لا يضمر حسهم النبيل.. وفي ذروة غليان حرقة التمزق النفسي احتدت الشرارة داخل رأسه، واندلعت النيران في جسده، ومارس اللهيب طقوس ثورة الحرية في النفوس المقهورة، وكانت بداية لاحتمالات لا نهائية!

 محمد رياضي
البيضاء، يناير 2012

حيرة وجود..

  حيرة وجود .. سمة حورية أسطورية، وعناد نخوة جاهلية، وكبرياء أنثى إنسان، بملامح طفلة غامضة دائمة الحزن والابتسامة، صادفها في حيرة وجود، تا...