jeudi 9 janvier 2014

Human dignity إنسانية الإنسان، التبخيس والمعاناة، مسؤولية المواطن والسلطة! 2/2

العربي أنا وحكايات الإنسان الآخر!
متى نجعل من إنسانيتنا قضية؟
  الحكاية الرابعة: 2/2

إهداء:       إلى كل من يمارس رفض التبخيس لكرامته، فلا يعيش فقط، وإنما يعاني ليسمو إلى إنسانيته.
  إلى روح والدي، رحمة الله عليه، كان متحزبا بالوطن إلى النخاع، ووفيا لإنسانيته إلى الموت، كان يفضل مراضاة نفسه على أن يراضي غيره على حساب كرامته، كان يحيا مصيره بقناعة ومبدأ "كرامة الوطن من كرامة المواطن"، ونصيحته الدائمة لي: "يا بني، لا تراهن على كرامتك، مهما كانت صعوبة الظرفية، وقسوة القدر، إنها من الأشياء التي لا تشترى، إن فقدتها تخسر نفسك، وتعيش حياة الذل، ولن تساوي حبة بصل، لا في حياتك، ولا بعد موتك.".. 
  
                               إنسانية الإنسان
 التبخيس والمعاناة، مسؤولية المواطن والسلطة!

من  البديهي  أن  نؤمن بالإنسانية كفلسفة حياة منظمة للوجود الإنساني، لكن من الصعب أن نثق في الإنسان، محور الإنسانية، لأن الكائن البشري تَحكمه تأثيرات النفس السيئة، تُبعثر المفاهيم على هواه، مما يُضعف وجود إنسانية مثالية مطلقة. ولا يختلف اثنان على أن المخلوق الآدمي لم يختر الولادة ولا الموت، لكن الالتزام الأخلاقي  بقيم الحياة الإنسانية يجعله مسؤولا عن اختياراته ومواقفه الحياتية، قيم تضبط العواطف والعقول، الأفعال وردود الأفعال، وتميز الإنسان عن بقية المخلوقات الأخرى، إن فقدها تسقط عنه إنسانيته، والكرامة أسمى القيم، في السماء والأرض،  مهما اختلفت  أشكال الوعي الإنساني.

الكرامة العربية وعوامة نجيب محفوظ:
    أما في المنطقة العربية حيث الإمكانات مغيبة، والكفاءات مهدورة، والفكر الانهزامي يعلن الولاء للجهل والنفاق الوطني والديني وحياة التمسكن والعار، وسياسة الترقيع والقمع تنتهج مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة."، فقد أضحى المجتمع العربي، من المحيط إلى شط العرب، كعوامة نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل"، تجمع العدمية واللامبالاة والنفاق والخيانة ومدمني الحشيش والمخدرات، فتشهر النفوس الدنيئة أنيابها لتحيا على حساب كرامتها الإنسانية، فتستمد السلطة سطوتها من خيانة الوفاء، وتأخذ الحِكم من أفواه المساطيل، على حد سخرية خالد عزوز )عادل أدهم( من أنيس زكي )عماد حمدي( الموظف اليائس والمحبط، والمثقف الانهزامي الساخط على الواقع في "ثرثرة فوق النيل"، فتجد سلطة الاستغلال والهدر من يحميها، ويتماهى بسلطتها، من كل فئات المجتمع، الفقيرة والغنية،
وأدمهم المتثاقف والمتدين الزنديق، في حين ليس للمواطن خيار التخلي عن كرامته، مهما كان ألم الجوع، أو رغيد العيش، أو السخط الأسود على الواقع الحياتي، فالكرامة عزة الإنسان،  وانتهاكها إلغاء لإنسانيته، وإدانة لخالقه، وبفقدانها تنهار القيم وتندثر، وتتنامى روح الفساد، ويطغى الفكر الماكر، وتنتعش الخيانة والنفاق والوجود الدنيء لمخلوقات شرفها خالقها عن غيرها من الكائنات الحية، ولإضفاء الديمقراطية على سلطتها القمعية تنتقي سياسة القهر والتسلط أنذلهم للاعتزاز بها، وحمايتها، وتطبيق أحكامها، بكل أشكال القهر والهدر لإنسانية المواطن، فاستأسدت النذالة والدناءة، واستوعبتها دواليب العوامة، وحاصر إعلام الوهم عيون الضمائر الخافقة، فاستكانت إلى الصمت، تمتصها غربة الوطن، واستقوت لعبة الموت ضد الإباء، وعزة النفس، وفكر التنوير، وباتت علاقة المتسلط بالعامة الساخطة شبيهة بعلاقة الرجل بالمرأة، كل منهما يعتقد أنه المتحكم في الآخر، الرجل بقوته

وبلادته، والمرأة بضعفها ودهائها، وفي الحقيقة كلاهما أسير الأهواء وروح الانتهازية، فلم يعد يُندى الجبين للوقاحة، وباتت الأخلاق سمة الغباوة والبلادة والتفاهة، فشمل العوامة الاستهتار، والتخلف، والفساد الروحي والفكري والوطني، واستوى المارق والفقيه، واستُبيح إجرام النهش في أعراض الناس وحرمة الوطن، واستحل المجرم الخسيس بطولة السجن، فبات يرتاده بدون خجل، كأن به بلية، ولا تخمد إلا بارتكاب أية جريمة تسمح له بالعودة إلى زحمة السجن، ليمكث بين السجناء أكثر بطشا، حتى  يخمد هيج البلية، وخارج السجن عائلة الدنيء تتباهى وتغتر بسجينها العار، وتفتخر بمجرمها البار، الذي يعيش ويُعيشها على حساب الغير، ومن هذا الغير؟  الوطن، والدين، وضعاف المجتمع، فتيات، نساء، أطفال، وعجزة..، ومن العائلات الحقيرة الدنيئة، ثرية وفقيرة، من تتباكى بحرقة مصطنعة، وتتمسكن بعاطفة مزيفة، لتبعد عنه عيون المخبرين، وعندما يقع مجرمها المبارك أسير العدالة، أول من يسرع ليقيه المحاكمة العادلة، وبأي ثمن، الأم، أو الأخت، أو الزوجة، أو العشيقة، فقد تعود النذل الاحتماء على
حساب الكرامة، داخل وخارج السجن، لا يهم كيف؟ وهذا ليس من باب الأمومة، أو الأخوة، أو العاطفة، لا، ولا يمكن الاقتناع بذلك، بل من باب الرضا ومباركة انحرافه؛ أما الأب، الزوج النكرة، فيتوارى عن الأنظار حتى يخرج الابن البار، ويعيد له الاعتبار في أعين الغير من أهل الحي والأسرة والدار، وعندها يبرم طرفي شاربه باعتزاز وهمي، وهذه الحالة الدنيئة، لهذه النوعية من المجرمين وعائلاتهم اللعينة، ليست بسبب بطش المال، أو كفر الفقر، وإنما نتيجة النفوس السيئة والتخلف الفكري، ولكم بعض حكايات أناس من واقع حياة الذل والقهر والعبث في العوامة العربية.. ا

الجدة اللعينة:   
 قصة شاب تجاوز الأربعين، قضى حياته في السجون منذ سن 12 سنة، بسبب جهل جدته؛ عاد مرة إلى البيت باكيا، صادفته جدته، واستفسرته في الأمر، وعندما علمت بأنه بسبب شجار مع أحد أبناء الحي في عمر الحفيد المدلل، لم تتحمل الجدة بكاء  صبيها العزيز، فولجت توًا المطبخ، واختارت سكينة، وناولته إياها، ودفعت بالحفيد الصغير لأخذ الثأر، ولم يكن من أمر الصبي إلا أن أسرع ونفذ نصيحة الجدة الجاهلة، وكانت الجريمة التي قذفت به إلى عالم الإجرام والسجون، من سن الطفولة إلى سن الأربعينيات. هل هذه جدة عادية؟ لا أعتقد ذلك، إنها العقلية الفاسدة الجاهلة التي دفع الحفيد البريء ثمنها قاسيا. إ
أكيد سيدعي البعض بأن الجدة، ضحية واقع مريض لسياسة قاهرة. لا، إنه اختيار شخصي عن قناعة روح فاسدة، وسأسرد عليكم حكاية أخرى من عمق الفقر الشرس في فترة الرصاص، حقبة الجحيم والأرواح المغدورة، حيث كان المرء يحذر غدر ظله، وكان الاختيار بقناعة روح صافية..إ
 :الأم الفاضلة
 حكاية سيدة أمية فقيرة، مات زوجها فجأة، وتركها وحيدة مع أطفال صغار؛ ربة بيت، لا معيل، ولا بقية أجر قار، ولا إرث يذكر، وعليها إطعام أطفالها الأربعة؛ عبء كبير، ولا من رحيم، وما كان على الأم إلا أن بادرت، بعقليتها البسيطة، وروحها الصافية، وفكرت، وقررت، ونفذت رغما عنها. أخذت أكبر أطفالها، أربع سنوات، إلى مركز خيري بالبيضاء، أيام كان المركز ملجأ لليتامى، ومن هم في حاجة إلى المأوى والمساعدة، وكان يقوم برسالته الاجتماعية والوطنية، ولكم أن تتخيلوا معاناة هذه الأم الفاضلة، التي يجب الوقوف احتراما وتعظيما لها ولأمثالها، حاولت، وبعناد ومشقة، أن تجد لابنها الصغير مكانا في الملجئ الخيري، وتحقق المراد، وعانى قلب الأم حرقة فراق صبيها، الذي لا يتجاوز الأربع سنوات، لكن لم يكن لها أفضل منه خيارا. ومرت السنوات، ترعرع الابن الصغير بعيدا عن دفء حضن أمه، كبر وتخرج من الملجئ الخيري، كما قلت، أيام كان للخيرية دور فعال في الإيواء والتكوين والوطنية، تخرج الطفل ربان الطائرة، ومن حينها، يجوب، دون عقدة نقص، فضاءات العالم، مفتخرا بأمه العظيمة وانتمائه الوطني، أليست هذه الأم الكريمة الفاضلة أفضل بكثير من الجدة اللعينة؟..  

الأب العار:   
     مرة، قبل عشر سنوات، عند أدان صلاة العشاء، قرب مسجد القدس، بزاوية شارع رئيسي، يحمل نفس الاسم بولاية الدار البيضاء، طلبت سيارة أجرة، وبعد حين من ركوبي، بادرني السائق، في الستينيات من عمره، بالكلام، يحدثني عن حالة زبونة كان لها وقع كبير في نفسيته. فتاة في أواسط العشرينيات، ترتدي جلبابا أحمرا، كانت برفقة رجل في أواخر الستينيات، يبدو عليه الوقار والطيبة وحسن المظهر، بجلباب صوفي أبيض، توقف لهما السائق في الليلة السابقة، في نفس المكان، ونفس التوقيت، فركبت الفتاة السيارة دون السيد الطيب الوقور، الذي توجه بعد ركوبها إلى باب المسجد.. مباشرة عند انطلاق سيارة الأجرة، أخذت الفتاة تزيل الجلباب، وهي تنتحب بمرارة، وتبكي بحسرة، وتشتم المخلوق، الذي كان برفقتها، بكلام قبيح، ناب ودنيء، واستفسرها السائق عما يبكيها، فكشفت له أن البني آدم، الذي كان معها، المتظاهر بالوقار والتدين، متقاعد، في أواخر الستينيات، يرافقها يوميا عند العشاء حتى تجد سيارة أجرة، ثم يذهب لأداء واجب الصلاة، وينتظر عودتها بعد أداء صلاة الفجر؛ استغرب السائق لأمرها، وسألها عما بها تمطره بوابل من أقبح الأوصاف، بل عليها احترامه وشكره لأنه يخاف عليها، ويتعب نفسه من أجلها؟ وكان الجواب الصادم، عندما أخبرته حقيقة من يكون الشيخ الوقور، الذي يجبرها على امتهان الدعارة، في فندق معروف برذالته، في شاطئ عين الذئاب، كان حينها في ملكية شخصية برلمانية، وينتظر عودتها بعد صلاة الفجر، لينزع منها ما كسبت على حساب كرامتها، وكانت  الصاعقة عندما أعلمته أن الدنيء، الحقير، الخسيس، اللئيم، السافل، المنحط يبقى والدها. أي أب هذا؟ وأي متدين هذا؟ وأي مواطن هذا؟

التربية أساس التنمية واحترام الكرامة:   
 
     يمكن أن أسرد عليكم حكايات عديدة يندى لها الجبين، مواقف واختيارات مساطيل العوامة العربية، أفلا يمكن استخدام النوعية السلبية والدنيئة من المخلوقات الآدمية بيادق تديرها السلطة المستبدة كما تشاء، وتُستغل أشدها حقدا أعينا ضد الوطن؟

   واقع مريض يعكس غياب التربية الأخلاقية والفكرية، وهيمنة الفكر الانهزامي والعقلية الانتهازية، فاندمج المواطن السلبي عن طواعية في حيل الإسقاط النفسي ليبعد عنه مسؤولية الواقع البئيس الذي يتمرغ فيه، فوجدتها ديمقراطية الاستبداد والاستغلال، هي الأخرى،  طريقة للتملص من المسؤولية، وتبرير واقع حياة الدونية وفوضى التخلف والوقاحة التي ترعاها.
   ليس هناك ما يبرر سلبية المواطن واستهتار السلطة، فمهما كانت الظروف الاجتماعية والمستوى الفكري، يتحمل المواطن مسؤولية سلبيته، لأنه لم يكن مرة الفقر عيبا، ولا اليتم عائقا، ولا الغنى امتيازا، ومن يقبل بحياة العار يعزز سلطة الاستغلال وثقافة هدر القيمة  الإنسانية. فالنذل يبقى نذلا، ولا علاقة لنذالته بالفقر ولا بالثروة، فالفقر ليس لعنة، ولا يستطيع إذلال النفوس المؤمنة بإنسانيتها، والثروة ليست فضيلة، ولا تستطيع شراء الكرامة للنفوس الحقيرة والدنيئة،  فالكرامة تصنع الأوطان، والتاريخ يخلد شرفاءها على مستوى العائلة، والأسرة، والقبيلة، والوطن، والإنسانية، فعزة النفس احترام للذات ولخالقها وللوطن وللإنسانية، وصدق شاعر النيل حافظ إبراهيم عندما صرخ بشاعرية وطنية إنسانية:
"وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ...... فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا"

                        محمد رياضي

                                                                              البيضاء، يناير 2014     

Human dignity إنسانية الإنسان، التبخيس والمعاناة، مسؤولية المواطن والسلطة! 1/2

العربي أنا وحكايات الإنسان الآخر!
متى نجعل من إنسانيتنا قضية؟
الحكاية الرابعة:1/2
إنسانية الإنسان
التبخيس والمعاناة، مسؤولية المواطن والسلطة!

إهداء:              إلى كل من يمارس رفض التبخيس لكرامته، فلا يعيش فقط، وإنما يعاني ليسمو إلى إنسانيته.
 إلى روح والدي، رحمة الله عليه، كان متحزبا بالوطن إلى النخاع، ووفيا لإنسانيته إلى الموت، كان يفضل مراضاة نفسه على أن يراضي غيره على حساب كرامته، كان يحيا مصيره بقناعة ومبدأ "كرامة الوطن من كرامة المواطن"، ونصيحته الدائمة لي: "يا بني، لا تراهن على كرامتك، مهما كانت صعوبة الظرفية، وقسوة القدر، إنها من الأشياء التي لا تشترى، إن فقدتها تخسر نفسك، وتعيش حياة الذل، ولن تساوي حبة بصل، لا في حياتك، ولا بعد موتك."..


                                 إنسانية الإنسان
التبخيس والمعاناة، مسؤولية المواطن والسلطة!

من  البديهي  أن  نؤمن بالإنسانية كفلسفة حياة منظمة للوجود الإنساني، لكن من الصعب أن نثق في الإنسان، محور الإنسانية، لأن الكائن البشري تَحكمه تأثيرات النفس السيئة، تُبعثر المفاهيم على هواه، مما يُضعف وجود إنسانية مثالية مطلقة. ولا يختلف اثنان على أن المخلوق الآدمي لم يختر الولادة ولا الموت، لكن الالتزام الأخلاقي  بقيم الحياة الإنسانية يجعله مسؤولا عن اختياراته ومواقفه الحياتية، قيم تضبط العواطف والعقول، الأفعال وردود الأفعال، وتميز الإنسان عن بقية المخلوقات الأخرى، إن فقدها تسقط عنه إنسانيته، والكرامة أسمى القيم، في السماء والأرض،  مهما اختلفت  أشكال الوعي الإنساني.

الكرامة والوعي قناعة وإيمان:
    يحفل التاريخ الإنساني بحروب عديدة، بررتها الكرامة بمعاني ودلالات مختلفة باختلاف المزاجية والغايات، فهناك من يقيمها بالمال، وفئة تجدها في سلطة الاستغلال والاستبداد، وأخرى تعيشها في الإجرام والعدوانية، والغالبية تستطيبها في الخضوع والاستسلام، وسلالة إبليس تتنفسها في التجارة بالدين، لأنها "التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل." )ابن رشد(؛ و في حقيقة الأمر، الكرامة، التي تجنب الشخص الرذائل الخلقية وحياة الذل، لا علاقة لها بالمستوى الاجتماعي، ولا الدراسي، ولا الثقافي، ولا بإيديولوجية محددة أو قناعة دينية معينة، كما لا تتوقف في تحرير الأرض، وتوفير الحاجيات الطبيعية والضرورية، الاجتماعية والفكرية والروحية، لأنها حقوق طبيعية، وعزة النفس تبارك انتزاعها بالقوة، وإن كان الثمن الموت. لهذا فالكرامة لها مفهوم واحد، كما شرفتها الديانات، ونظرتها الفلسفات، وعززتها المواثيق الدولية، مما جعلها واجبا أخلاقيا، والتزاما مبدئيا للإنسان تجاه نفسه ومحيطه، في تعامله مع الآخرين؛ وجود قائم على الاحترام، إن فقده تلغى كرامته، وبالتالي إنسانيته، وتعيش روحه المهانة، والحقارة، والنذالة، والدناءة، وترتضي قذارة العيش، ويتملكها الحقد الاجتماعي، والنفاق الديني، والخيانة الوطنية، وإن كان صاحبها يؤدي وظيفة إمام مسجد، أو رئيس حكومة، أو قائد دولة، مما يؤدي إلى اندثار القيم، وانهيار ثوابت الانتماء، وينفجر الانحلال وفوضى الوقاحة في أوساط المجتمع، أبطالها الأخسة الجبناء، الذين"يموتون مرات عديدة قبل موتهم.." )نيلسون مانديلا(، أما الكرامة فتسمو بالإنسان إلى إنسانيته حتى في حالات النفوس المعقدة في عالم الإجرام.

المجرم والإهانة:
    ففي عالم الإجرام، في الغرب، تنعدم الرحمة في قلوب المجرمين المحترفين، لهم ميول عدواني قاسي شرس، لا يعرفون غير القتل والإقصاء والعربدة، ومن أجل المال والنساء والمغامرة، يرتكبون الخطيئة بعدوانية وجنون، ورغم قسوتهم، وطبعهم الإجرامي لا يتحملون المهانة، لأن فيها إدانة للذات وكرامة الشخصية العدوانية. فعندما تُمس كرامة أحدهم، يتولد لديه الشعور بالإساءة والتبخيس لنفسه، مما يؤدي إلى تبرير العنف اللامحدود لرد الاعتبار لشخصيته العدوانية؛ فالمجرم المحترف، رغم سلوكه الجانح، يتمسك بعزة شخصيته العدوانية، كرامة بقناعة سيكولوجية إنسانية جد معقدة. وهنا أستحضر فيلم "المحترفون"، من روائع  كلاسيكيات سينما رعاة البقر، أو ما يعرف بالوسترن، إنتاج 1966، بطولة لي مارفن، بيرت لانكستر، روبرت ريان، جاك بالانس، وودي سترود ،كلوديا كاردينال، ورالف بيلامي،  وتوقيع السيناريست والمخرج ريتشارد بروكس، يتميز العمل بقوة السيناريو، وحوار درامي متماسك، وبراعة البناء الدرامي للشخصيات، واحترافية جمالية التصوير، وحسن اختيار أجود الممثلين، والإخراج المتمكن، والأهم البعد الإنساني لنهاية الفيلم.  

"المحترفون" والكرامة: 

      تدور أحداث الفيلم في 1917، إبان الثورة المكسيكية، حول أربعة مرتزقة محترفين استأجرهم "جران"، رجل أعمال أمريكي، صاحب أراضي كثيرة، لاسترجاع زوجته "ماريا"، التي اختطفها مجموعة ثوار مكسيكيين تحت قيادة "رازا"؛ ومن أجل المال والنساء والمغامرة، المرتزقة مستعدون لمطاردة الشيطان في عمق الجحيم لتنفيذ المهمة المؤدى عنها. واستحضار هذه التحفة السينمائية ليس لإعادة قراءتها، وإبراز روعتها الفنية، أو لإعطاء قراءة لأبعادها الإيديولوجية في تلك المرحلة من تاريخ أمريكا، وإنما فقط لنتأمل نهاية الفيلم، ونأخذ العبرة، فالمجرمون الأشرار لا يهابون الموت، و"المحترفون" رغم الحراسة المشددة، نجحوا فعلا في اقتحام عقر "رازا"، في عمق الأراضي المكسيكية، وتمكنوا من الوصول إلى الزوجة المخطوفة، لكن "ماريا" تمنعت، ورفضت العودة معهم، وصدمتهم بحقيقة موجعة في الأعماق، فوجدوا أنفسهم في وضعية مأزقية حرجة، ف"ماريا" المكسيكية لم تختطف، وإنما هربت بملء إرادتها وراحتها النفسية لتلحق بحبيبها المكسيكي "رازا"، والمتعلقة به حتى الموت؛ حبيب الذكريات والأمل، الإحساس والمتعة، الصدق والوفاء، التضحية والوطن، وزوجها الأمريكي على علم بذلك،  فخلقت "ماريا" صراعا عنيفا في عمق أحد المرتزقة، وتسربت عدوى القلق النفسي إلى الثلاثة الآخرين، فأدرك الأربعة أن الزوج الإقطاعي استغفلهم، واستخف بهم،  واستدر قبولهم بفكرة الاختطاف، مستغلا غباوتهم وحاجتهم ليستعيد "ماريا" الهاربة من سجن العبودية، فعقد "المحترفون" العزم على إتمام المهمة، حسب الاتفاق، واقتادوا "ماريا" بالقوة إلى الزوج الطاغية الكذاب، وكان بإمكانهم التخلص من الحبيب الثوري "رازا"، الذي خاطر بحياته ليردعهم عن أخذ قلبه النابض "ماريا". وبملامح تنم عن الاستعلاء، استشاط "جران" فرحا وابتهاجا عند رؤية "ماريا" الهاربة مقتادة إليه رغم أنفها، لكن للمرتزقة موقف مفاجئ، فاحتراما لصدق المشاعر بين "ماريا" و"رازا"، اللذان غامرا بحياتهما وفاء للإحساس الصادق، وإخلاصا للانتماء والهوية، وإيمانا بالثورة الوطنية من أجل حياة أفضل، ومن جهة أخرى، عقابا للزوج المتسلط المتعالي، وأمام عينيه وأنظار أتباعه، سمح المحترفون للحبيبين بالعودة إلى الديار، وكان الخلاص، فعلاقتهما حب أسطوري مقدس، طاقة عاطفية إنسانية متكاملة، روحيا وفكريا وجسديا ووطنيا، إحساس صادق مرهف وعنيف بين الرجولة والأنوثة، الإحساس والمتعة، الحياة والوطن. موقف المرتزقة فجر الصدمة في عمق"جران"، وكشف عن خصلة في العمق البشري، تعلو بالشخص إلى مرتبة إنسان، وتميزه عن الكائن البهيمي، ففي عمق الإجرام والانفعال العنيف تكمن أيضا عزة الذات وكرامة الإنسان.. 


الكرامة وأعراف السجون:
     ومن أعراف سجون الإجرام في الغرب، فقط عند المحترفين أيضا، عندما يُزج بمجرم جديد داخل عنبر قساة القلوب، يُسأل عن جريمته، فيحضنون المجرم الداهية الذي سرق مصرفا، أو قتل أحدا من  المغضوب عليهم في مجموعة معادية من مجموعات اللوبي أو المافيا، أو فجر قاعدة من قواعد الخصوم السياسيين، أو الماليين، أو الدينيين، أما عندما تكون الجريمة هتك عرض طفل أو طفلة، أو اعتداء على امرأة، أو رجل مسن أو بسيط، فإنهم يحتقرونه، ويمتعضون من تواجده معهم، ويرفضونه، ويمكن أن يصل الأمر إلى حد التصفية الجسدية، إن لم يتم إبعاده عن العنبر في أسرع وقت ممكن، لأنهم يرون في تواجده بينهم تشويها لسمعتهم العدوانية، ومسا بشرفهم الإجرامي، ومن تم يمكننا القول بأن للمجرم أيضا كرامة وعزة نفس على قدر خطورة الجريمة. فماذا عن الكرامة العربية؟

الكرامة العربية وعوامة نجيب محفوظ: 

يتبع...

                                    محمد رياضي
                                                                    البيضاء، يناير  2014

حيرة وجود..

  حيرة وجود .. سمة حورية أسطورية، وعناد نخوة جاهلية، وكبرياء أنثى إنسان، بملامح طفلة غامضة دائمة الحزن والابتسامة، صادفها في حيرة وجود، تا...