mercredi 3 août 2011

! فخ الرصاص

 : إهداء
إلى ضحايا فترة الرصاص، ضحايا الصراصير العفنة، ذنبهم الوحيد أنهم أصحاب مبدأ وحق، آمنوا بالشعار الوطني، وأخلصوا للوطن دون مقابل؛ وبسبب الصراصير العفنة نفذت فيهم جميع أنواع الترهيب، فعاشوا حالة حصار مستمر،  حرية معتقلة، قمة المعاناة، أعنف من السجن والاغتيال..  

نص

فخ الرصاص !

 

صباح منعش، سماء متعجرفة بأناقتها الزرقاء، وشمس بتأن تسدل خيوطها الدافئة، تلعق جسد الأرض المبلل بالندى؛ وبارتياح دلال وغنج الأنثى تنهدت الأرض، وسرت في جسمها حرارة، نفضت عنها خيانة الألوان في دمس الظلام. وكعادتي باكرا، في طريقي الوعر إلى الكلية، هام وجهي المبتسم القلق في عبثية القدر القاسي، وعيناي بحذر تقتفي مواطئ الأمان؛ فجأة، تجهم وجه السماء،  التحمت غيوم صغيرة،  استحوذت على الزرقة،  فهاجت غبار ساخنة تصلي الوجوه، وفي الفضاء تتابعت ومضات خاطفة تعمي البصر، تلاها انفجار غيظ مدمر في أحشاء الأرض، فأحرق أزهارا لم تولد بعد،  وغمرت شوارع وأزقة المدينة سيول عنيفة، جرفت كل ما صادفت في حملتها المباغتة..

 عند عودتي إلى البيت وقت الظهيرة، كانت الوريقة الصاعقة تنتظرني بلهفة حارقة، فأدركني الجزع الرهيب، وشملني صمت ثقيل، اخترقه صوت غريب، أجهل مصدره:
-       "لا دخان بلا نار!  "
فطنت إلى ما يلمح إليه الصوت الغريب، وببرود جاف عمدت إلى تجاهله، فصدني بلهجة حادة:
-       " أصحاب الحال لا يرحمون!"
عندها، مرت برأسي صور لا يتخيلها العقل، اشتدت وطأة الضغط النفسي، وازدادت دقات قلبي، وأنا أضغط على الصاعقة بقوة داخل قبضة يدي، مغمغما كلاما لا معنى له..

في الموعد المحدد، رحت في اليوم الموالي إلى مقاطعة الحي، إلى المكتب المذكور في الدعوة الموقوتة..  متوسط المساحة، لا يتوفر على نافذة، ثمة رائحة تخنقني في المكان، على الرفوف ملفات مغبرة، متراكمة دون انتظام، فاضت بطونها من الحرام، بعضها لا زالت تسيل من أفواهها دماء الأزهار اليتيمة، وأخرى تفوح برائحة الدماء المغدورة. ولجته بخطوات خائفة، توقفت عند مكتب خشبي صغير آخذ في التآكل، الوحيد المتواجد في المكان؛ وبانفعال متظاهر، من على مكتبه الصغير، بحراك بطيء لرأسه، رفع حضرة الموظف الصغير حاجبيه يتفحص من الواقف أمامه، كأنه يتساءل عن الهوية وسبب الزيارة، فمددت إليه الوريقة الوردية الميالة إلى الاحمرار، ما كاد يلمحها حتى تغيرت ملامح وجهه، اكفهرت، وانفرجت،  واكفهرت، واحمرت عيناه ، كأنه رأى ما يثير هيجانه،  ويفقد صوابه؛ بسرعة عصبية انتصب قائما، شاب تقريبا في سني،  يضع ربطة عنق غير ملائمة شكلا ولونا، يظهر أنه حديث العهد بالوظيفة، ومستعد أن  يحرق المراحل ليتخلص من المكتب الصغير المتآكل..  أمعن في بنظرة جاحظة، أحسست بنقمة كريهة في سويداء عينيه، رأيت نفسي فيها حملا وديعا، والذئاب الجائعة تعوي من حولي حتى بح صوتها.. عندما التفت، لم أجد إلا ملفات فارغة، تلهث بشهية كبيرة، كل منها يستلذذني طبقا له، استشعرت حينها أنني في موقف مكهرب لا أحسد عليه! أي هراء مني سيقذف بي إلى جحيم غياهب صناعة الموت،  فأفرغت نفسي من الأحاسيس،  في حين رسم هو نصف ابتسامة ماكرة على ثغره، مسددا أنفه إلى الأعلى، وأخذ يلكزني بلسان سليط، تجاهلته مستفسرا في هدوء في أمر استدعائي. تفحصني بنظرات حاقدة، وهو يوجه الكلام إلى أربعة أشخاص، لم أكترث لوجودهم عند ولوجي المكتب العفن، أعرف منهم شيخ ومقدم الحومة،  أكيد حضور الأربعة ليس بريئا:
-       "ابن ألحرامي! أمثاله من تنكر لوحدة الوطن !"
أصبت للحظة بالصمم، ولا أدري كيف طار إليه سؤالي:
-       "لا أفهم ما ترمي إليه!"
لم يبال بكلامي، وتابع طعني بلسعات لسانه الفاسد، فقلت في نفسي:
-         "منذ النطفة كان سفاحا !"

كان مستعدا ليتربص بكل السنابل الناضجة، التي يثير تواضعها الرعب في أمثاله الصغار، ويحرق بها السنين، ويصعد..  يصعد.. ويصعد.. شعرت بشرك السواد يلفني، وهو يسحق قلبي بهرائه المطبوخ، ويترقب بحماس واضح أن يهوى جسدي على الأرض، فتنقض عليه الذئاب الجائعة، وتنهشه بشراهة، لكن الجسد لم يتعب، ولم أقع،  ظللت قائما أمامه مصفر الوجه، فامتعض من الانتظار المقلق، وبعينين حادتين ركز بصره بين حاجبي، كفوهة مسدس صامت:
-       " عقوبتك تصل إلى تجميد بطاقتك أو نفيك وراء الحياة!"
غرست عيناي في أعماقه، لقد اندمج القزم في دور السفاح المتعطش إلى استخلاص ما يريد تأكيده،  حاولت أن أدرأ شره، ففاجأني بملف محنط، ملف يعلوه الغبار الكثيف، أخرجه من مشرحته، ملف سمين، بطنه متدل من الحرام المفرط.. ملف مجهول الهوية، يبحث له عن اسم وضحية.. عندما صفع به المكتب، طارت الغبار، وتأججت نزوات أبالسة السماء والأرض،  استشممت، حينها، رائحة أوراق موقوتة تمزق الحياة إلى أشلاء، وتختفي في غموض أبدي..  فخيم علي ظلام شامل، وأنا أهمهم بصوت خافت:
-       "أهو حقد الصغار؟ يا لشر الصغار!"
بقيت، لثوان مثقلة بالسكون الملغوم، أحدق فيما حولي من الملفات الجائعة، ونظرات الأشخاص الأربع، ثم أمعنت النظر فيه بعينين باردتين، تذكرت، حينها، حكايات الاختفاء الغامض، عندها اغتصبتني فكرة الانتحار، فهو أرحم من أن أنفى داخل بطاقتي. عند حشرجة الاحتضار انتفضت في داخلي جمرة ملتهبة، صهّرت الرعب المبثوث في العمق، وحتى يخمد الإحساس المتوهج في مهده لاحقني الصغير الشرير بفم، كرشاش كلاشينكوف، من الوساوس المتطرفة، لعلني أقع، ويحشرني في الملف المعد سلفا، ويقف الزمن..
-       " شئت أم أبيت سنسبر أغوارك!"
في ثوان معدودة، تدحرجت أمامي سنوات، من عمري الآتي، في غيبات جحور مسكونة بهستيرية الجلادين اللقطاء، وتساءلت في قرارة نفسي:
-       "أي فساد معقد في هذا الصغير اللعين ! ؟"
لحظة حيرة عصيبة لا أدري ماذا أفعل، فيما تنفع الجرأة أمام العدوانية المبيتة؟ وفيما ينفع الخوف أيضا؟ فالنتيجة واحدة، الضياع؛  بغتة انتفض لساني على وجهه بصراخ حلق في الهواء، وراحة يدي اليمنى تهوي بقوة على مكتبه الصغير:
-         " ليس من حقك أن تشككني في وطنيتي!"
عندها هرع واحد من الأشخاص الأربعة ـ لا أعرفه ـ إلى الإمساك بي، وتهدءتي.. تمزق الصوت، وداخل السكون الرهيب كل شيء كان يفور ويغلي.. لم يستسغ ردة فعلي، و لم ينل مبتغاه، فاهتدت عدوانية الصغير إلى ولي أمري، أنا ابن الثالثة والعشرون..

وفي مساء يوم غائم، لفت الأب الحنون، المؤمن، المسالم، الصبور، المريض بداء السكري، فوارة الرعب والخوف والشك من خياله، وتحيرت الوالدة عند سماعها أهواله المخيفة، فتلحفها، هي الأخرى، الرعب والخوف والهذيان، وهي تولول في صمت حزين، بعينين تائهتين، وقلب مكلوم، خوفا من مصير غامض مفاجئ لوحيد فلذة كبيدها..  عندها، تراءى لي شبح الصغير الحقير يحوم فوق رؤوسنا..

وتلاحقت مناورات الشمامين، وبخطى مترددة مضيت في سبيلي كالأهبل في مدينتي البيضاء، الغارقة في الخطيئة والعشوائية.. خطوات بطيئة، سريعة كالهارب من ظله المشبوه، فعشت حياتي بحرية معتقلة داخل زنزانة متحركة، ومضت الفصول في فصل واحد..

 حرقة الخوف دفعت الوالدين إلى التوسل والاستشفاع بصديق للعائلة، عليم بخبايا الداخلية،  ونقب الصديق بطرقه الخاصة عن جمرة الدخان؛ بعد أسبوع أتى ليزرع الطمأنينة في كياني، وينصحني بأن أنسى ما وقع، وأعتبره مجرد حلم مزعج، وألتزم الهدوء..
- "كن على يقين أنه لو تأكدت الشكوك لما عرفت لك أشعة الشمس طريقا!"
تفكرت مليا، وانفلتت مني نصف ابتسامة خفيفة، وبثقة نفس واضحة قلت له:
-         "لكن لا أستطيع أن أتغلب على حالة الرعب التي عيشني فيها الصغير الحقير!"
عندها، انبسطت أسارير وجهي، فواتتني فكرة الاستنجاد بالعدالة، لترد لي اعتباري؛ تبسم صديق العائلة لسذاجتي، ورماني بنظرة ساخرة، وقهقه بملء فكيه، وبعد أن أشعل سيجارة سوداء، من النوع الرخيص، لاح  بنظرات فاحصة لما حولنا، ومال برأسه نحو  أذني القريبة منه هامسا فيها:
-         "لا تكن غبيا، فقد يصير غير الموجود موجودا! "

ولأخفي بصماتي عن الأكذوبة المنظمة، التي يتفنن فيها مثل هذا الصغير الحقير، تعريت من جلدي في انتظار بزوغ شمس يوم جديد، وتابع وجهي المبتسم القلق مساره، تحت أضواء باهتة، يبحث عن الحقيقة الضائعة، ومن حين لآخر، تنتحر شهب لسبب ضعف تحمله. أكيد، العهد الجديد آت لا محالة !!!
   
                                                         محمد رياضي
                                                       إعلامي
                                                          الدار البيضاء، غشت 2011

(فخ الرصاص!: عن تجربة حقيقة وقعت في بداية الثمانينات!) 

حيرة وجود..

  حيرة وجود .. سمة حورية أسطورية، وعناد نخوة جاهلية، وكبرياء أنثى إنسان، بملامح طفلة غامضة دائمة الحزن والابتسامة، صادفها في حيرة وجود، تا...